عندما أدلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتصريحه الشهير في 23 كانون الثاني (يناير) 2016 بأنه يمكنه "الوقوف في منتصف الشارع الخامس وإطلاق الرصاص على شخص ما، ولن أخسر أي ناخب"، لم يكن في خلد أحد، وربما نفسه أيضاً، أن الظروف اللاحقة ستتغير لصالحه إلى درجة أن إطلاق الرصاص الافتراضي الذي ذكره لن يؤدي فقط إلى عدم خسارة أي ناخب، بل سيتجاوز ذلك بكثير، إذ سيبقى رئيساً ذا حصانة واسعة لا يمكن تقديمه إلى المحاكمة.

ففي بداية هذا الشهر، قضت المحكمة الأميركية العليا في حكمها بأن رئيس الولايات المتحدة ليس فوق القانون، "ولكن لا يمكن عزله بسبب المهام الرئيسية التي يفرضها الدستور". واستند الحكم إلى فكرة "علوية منصب الرئيس" و"الفصل بين السلطات".

ألا يُعتبر هذا الحكم بمثابة منح الرئيس بطاقة دعوة يحتاجها أي دكتاتور أو أوتوقراطي لخرق القوانين، ليس فقط من النوافذ الخلفية، بل على مرأى الرأي العام والشعب؟

هل يعتبر قرار من هذا النوع منطقيًا أم انتهاكًا صارخًا للدستور؟

إنَّ مسألة هؤلاء الساسة تحمل حساسية دائمة وغير طبيعية في القضاء. فالمسألة بحد ذاتها تمس قلب كل نظام ديمقراطي وليبرالي. إذ يسأل المرء (هنا في حالة ترامب): كيف ينبغي التعامل مع السياسي الذي أثبت من خلال تصرفاته غير الشرعية أنه يريد تدمير نفس النظام الذي ساعده، عبر آلياته الديمقراطية، للوصول إلى السلطة في انتخابات سابقة؟

حكم كهذا يشكل بالتالي خطرًا على فصل السلطات. يمكننا القول إن القضاة وضعوا نظام الحكم أمام خيارات أحلاها مر، بل ومسموم، أكثر مما يتصور المرء، إن لم نقل إن ذلك يعد تفكيكًا دستوريًا قاسيًا.

الخط الفاصل بين ما هو متأصل في منصب الرئيس وما يفعله الرئيس كشخص عادي أو على انفراد لم يتم تحديده في هذا الحكم. تُرك هذا الأمر للمحاكم الأخرى على ما يبدو، مما يجعل هذا الخط قابلًا للاختراق في أي وقت، يستغله الرئيس كيفما يشاء.

صحيح أن كل رئيس، أينما كان ومتى كان، كإنسان له خصوصياته الشخصية، ومن الضروري أن تُحترم حقوقه الشخصية كاملةً. لكن لسوء حظه، يُعتبر في كثير من الأحيان شخصية عامة، وتؤخذ تصرفاته وأقواله على الدوام، وفي كل لحظة، وفي كل مكان، وفي كل مناسبة، على محمل الجد وتخضع للحساب.

من الآن فصاعدًا، يستطيع الرئيس الأميركي السابق ترامب أن يزعم، على سبيل المثال، أن إزالة الملفات من البيت الأبيض وتخزينها في ممرات قصره في فلوريدا كانت عملاً رسميًا لسبب ما، أو أنه طالب الجمهور بالهجوم على الكابيتول، لأنه كان هناك أدلة تُفيد بوجود تزويرات كان واثقًا منها في حينه (على الرغم من أن العكس قد تم إثباته). فهو في هذه الحالة (أو الحالات) معذور دائمًا، لأنه أخطأ في حساباته وبالتالي ينجو بكل بساطة من العقاب وحتى من المثول أمام القضاء.

لقد فشلت المحكمة الأميركية العليا فعلاً في تحديد ما يشكل أفعالاً رسمية وما يشكل متعة خاصة للرئيس وأهوائه.

إذاً، الدافع وراء الأفعال السابقة واللاحقة لا يهم، والمحكمة العليا أوضحت ذلك بشكل لا غبار عليه. وبالتالي، إذا ما قام النائب العام الاتحادي أو كبير المحققين بإجراء تحقيقات بشأن مخالفة أو جنحة أو جريمة ما ارتكبها الرئيس، ستكون تلك الملاحقة بحد ذاتها مخالفة للدستور "الجديد" وتُعتبر فرضيًا أو واقعيًا مخالفًا للقانون والدستور بشكل عام.

إقرأ أيضاً: "توقيت كوارث الحروب المدمرة"

ألا يمكن للرئيس أن يحول ربما الحقوق الجزئية كرئيس لأقوى دولة (الآن) في العالم إلى "مطلقة"؟ أو أن يحول المواقف الآنية لبعض المسائل تحت ذريعة ما إلى مواقف استراتيجية ويسوء بذلك مصالح بلاده ونظامه؟ لأنه في هذه الحالة ليس هناك رادع أمامه وليس هناك من يمنعه في ذلك، بحجة حصانته. السلطة المطلقة لا تعني في جميع الأحوال سوى الديكتاتورية المطلقة. فقرار من هذا القبيل يعني بالتالي أيضًا عدم إمكانية عزل الرئيس من قبل البرلمان بداعي حصانته، إذا ما خالف هو القانون.

لقد كانت ردود الفعل من المختصين على القرار واضحة ومثيرة للقلق. فقد أعرب عميد النظرية الدستورية الأميركية لورانس ترايب عن قلقه الشديد من القرار، قائلاً إنه يذكره بـ"عام 1933 في ألمانيا، عندما تم تعيين أدولف هتلر مستشارًا ومنح صلاحيات دكتاتورية بعد ثلاثة أشهر...".

كما تجدر الإشارة إلى ما كشفت عنه إحدى أساتذة الدستور الأميركي أيضًا. فقد سألتها المجلة الألمانية "دير شبيغل": "ماذا يقول الدستور الأميركي عن الحصانة الرئاسية؟" أجابت كيمبرلي فيهلر، أستاذة في جامعة بالتيمور: "لا شيء. هذه اختراع من المحكمة العليا. لقد عرف واضعو الدستور بالضبط كيفية منح الحصانة على وجه التحديد: لقد قدموها إلى الكونغرس، وليس إلى الرئيس".

إقرأ أيضاً: حظوظ وعواقب فوز ترامب في الانتخابات القادمة‎

وعليه، فإنَّ الحكم الصادر عن المحكمة العليا الأميركية ليس خطأ فات القضاة، بل هو سلوك منحرف وخطير وإرادة صارمة تُخفي وراءها أهدافًا استراتيجية لفرض إرادة أقلية سنحت السياسة الفرصة لها، لأخذ زمام الأمور من موقع حساس في السلطة، أي السلطة القضائية. وقد أُتيحت لترامب أثناء منصبه الرئاسي فرصة تعيين ثلاثة من القضاة التسعة، واختار قضاة من ذوي التوجه المحافظ القريب لمنطلقات حزبه ومؤيديه، وذلك ليفرض رأيه على "الأكثرية" في مجتمع تعمقت خلافاته الداخلية إلى حد خطير وتشددت استقطاباته.

ومن المؤكد أن ترامب، في حالة فوزه في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، سيجعل من وزارة العدل أداة للانتقام من "أعدائه" المفترضين من الساسة والمناوئين، وهم كثيرون، وليسوا فقط ضمن صفوف الحزب الديمقراطي. والأرجح أن ترامب سيمهد الطريق إلى أميركا أخرى، إلى دولة أوتوقراطية، وهذا ما سيثلج صدور الكثيرين من الذين لا يطيقون دولة الحريات وحقوق الإنسان.

إقرأ أيضاً: اليمينية الشعبوية الصاعدة في الغرب

لنتذكر شيئًا من التاريخ: خلال ثورة 1776 في الولايات المتحدة الأميركية، أراد المواطنون الأميركيون تحرير أنفسهم من تعسف الملوك واستبدادهم، وجعلوا من نظامهم السياسي مهد الديمقراطية الحديثة.

واليوم، بعد قرار المحكمة العليا، تقف الولايات المتحدة الأميركية على وضعية غريبة جدًا. لا نبالغ إذا قلنا إنها تقف من الناحية الدستورية على حافة الهاوية. والسؤال الآن: هل ستنتهي "أول ديمقراطية حديثة" بالتحديد هناك، حيث بدأت؟