قبل كل شيء، يتوجب التمييز بين قوة الدولة بمفهومها المتكامل وقدرة الدولة على الإيذاء، فدول مثل كوريا الشمالية وروسيا وإيران، ليست قوية بشكل متكامل، لكنها تمتلك قدرات عالية (بدرجات متفاوتة) على الإيذاء تجعلها نشطة في التموضع والمناورة على الساحة الدولية.
هناك زوايا عدة لتقييم قوة الدولة، وأهمها تلك التي تتضمن عناصر الأرض والسكان والمشروع المُعَرَّف.
أول عناصر القوة يتعلق بمدى سيطرة الدولة على أراضيها، وبشكل أدق على حدودها الكاملة، وهي سيطرة لا تتحقق دون تجانس العناصر الاجتماعية والاقتصادية (تنمية متكاملة تشمل البنى التحتية والموارد) للسكان المقيمين على هذه الأرض. فالمناطق التي يتركز فيها الفقر تضعف فيها هيمنة الدولة وتتحول سلطة المركز إلى هدف للهوامش.
ولهذا، تحرص الدول المتقدمة على تحقيق تنمية "شاملة ومستدامة"، ومحو الفوارق بين مراكز المدن والأرياف والهوامش. ويتجلى هذا الحرص (على سبيل المثال) في وصول شبكات النقل الجماعي (أو خدمات البريد) أو تجهيزات الطاقة إلى أماكن نائية وقليلة الكثافة السكانية في تلك الدول.
في هذا السياق، وعلى سبيل المثال كذلك، فإنَّ أكثر ما كان يقلق القيادة الصينية في موضوع الصعود على سلم القوة خلال العقدين الأوليين من هذا القرن، هو وجود مناطق صينية واسعة تعاني من الفقر، ما رفع هدف "التخفيف من الفقر" إلى رأس قائمة أهداف دخول الصين إلى الحداثة وتحقيق الحلم الصيني.
في عام 2019، أعلن "ليو يونغ فو"، مدير مكتب المجموعة القيادية لتخفيف حدة الفقر والتنمية بمجلس الدولة الصينية، عن اقتراب الدولة من حذف أكثر من 90 بالمئة من المحافظات الفقيرة من قائمة الفقر مع بداية العام التالي.
وتعتبر كذلك قوة الدولة الروسية هشة ومحدودة، بسبب وجود أراض واسعة خالية من البنى التحتية المتماسكة إضافة إلى ضعف معدل النمو السكاني (خلال نصف القرن الماضي لم يتجاوز معدل خصوبة المجتمع الروسي رقم 1.5 بالمئة، ويتناقص عدد سكان روسيا سنوياً بحوالى نصف مليون نسمة).
ووفقاً لهذا المعيار، لم تنجح الحكومات المتتالية في العراق في وضع خطط جادة لتحقيق تنمية متجانسة وشاملة تؤشر تأثير الدولة وهيمنتها على جميع الأراضي العراقية.
إقرأ أيضاً: تفاهة الشر
العنصر الثاني لقوة الدولة يتعلق بالسكان، إذ يضمن ذلك وجود الأيدي العاملة وسوق الاستهلاك. وفي هذا المجال، تعتبر مصر وسنغافورة دولتين ضعيفتين، لوجود انفجار سكاني كبير في الحالة المصرية (طفح الموارد البشرية) وتحديداً غياب قدرة الدولة على توجيه الموارد البشرية نحو مسارات تنمية خاصة بها (مثال معاكس للصين)، ووجود نقص سكاني كبير لا يتناسب مع تنمية سريعة في حالة سنغافورة (طفح التنمية).
وفي هذا المجال، لا يتماشى العنصر السكاني لقوة الدولة مع واقع الدولة العراقية، حيث يعاني المجتمع من نمو سكاني سريع (وغير مشفوع بتنمية حقيقية متجانسة)، استناداً إلى الإحصاءات التي تشير إلى اقتراب سكان العراق من عتبة 43 مليون نسمة في نهاية هذا العام، وإمكانية الوصول إلى حوالى 51 مليون نسمة في عام 2030.
إقرأ أيضاً: حين يتحول الموقف إلى "قيمة"
ويتعلق العنصر الثالث لقوة الدولة "برغبة" الدولة في توظيف عناصرها الخاصة من أجل امتلاك القوة والتموضع على الساحة الدولية. وتنتج هذه الرغبة عادة عن توافق القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة فيها حول رؤية للدولة ومشروع يحددان السياسات الداخلية والخارجية المجسدة لهذه الرغبة (وعلى رأسها احتكار الدولة للعنف).
وتعتبر التحالفات الدولية من أهم أدوات قوة الدولة (الناتجة عن الرغبة)، كركائز لتسهيل حركة الدولة كقوة على خارطة القوى الدولية الفاعلة، لكنها (التحالفات) تحولت إلى إشكالية أساسية في مسيرة العراق بعد 2003، حيث أصبحت الدولة مجالاً يتنافر فيه تياران، يميل أحدهما نحو تطويع التحالفات مع حاجات الدولة للتنمية والأمن والمصالح، ويميل الآخر إلى تنشيط سياسات أيديولوجية وحاجات مصلحية ضيقة تخص بعض القوى الفاعلة في الداخل.
إقرأ أيضاً: متحف كتانيا الإيطالي وذاكرة العراق الحائرة!
وهنا لا بد من التذكير بأن نجاح الدولة العراقية في توظيف "التحالفات الإقليمية والدولية" للقضاء على داعش، لا يمثل مظهراً من مظاهر قوة الدولة العراقية بقدر ما يمثل توافقاً ظرفياً يتعلق بأهداف إقليمية ودولية تطلبت خروج العراق من الأزمة موحداً.
واستناداً إلى عناصر قوة الدولة المذكورة، تبرز أهمية صياغة مشروع واضح وحقيقي للدولة من قبل نخبها السياسية، وتحفيز مفاصل المجتمع للالتفاف حوله وصولاً إلى إعادة تموضع جديدة على موازين القوى الإقليمية والدولية.
التعليقات