عندما يُعاد النظر في تاريخ الأنظمة التي حكمت بالقوة والاستبداد، يظهر النظام السوري نموذجًا فريدًا في حجم الدمار والإجرام والسرقات التي ارتكبها بحق شعبه وأرضه. مسيرة طويلة من الخيانة ابتدأت بسرقة مقدرات البلاد، واستمرت حتى تحوّلت سوريا إلى ركام، بينما كانت حياة الملايين تُسحق تحت وطأة القمع والإذلال. إذ إنه منذ عقود، بدأ النظام السوري نهب أموال الدولة بصورة ممنهجة. تشير التقديرات إلى أن الأموال المنهوبة قد تتجاوز مئات مليارات الدولارات، موزّعة بين حسابات بنكية في أوروبا، واستثمارات عقارية في العواصم الغربية، وأرصدة ضخمة مخفية في موسكو تحت حماية حلفائه. تُظهر الوثائق المسربة امتلاك عائلة النظام وشركائه عقارات فاخرة في لندن، وباريس، ودبي، وقصورًا في موسكو يُقدر ثمنها بمليارات الدولارات. هذه الأموال لم تُسرق فقط من خزينة الدولة، بل هي أموال الشعب السوري، الذي يعاني اليوم الفقر المدقع، والدمار الذي ألحقته الحرب. إن إعادتها ضرورة وطنية وأخلاقية، إذ تمثل هذه الأرصدة موردًا أساسيًا لإعادة إعمار البلاد، وتعويض الضحايا الذين دفعوا ثمن جرائم النظام. وإذا كان للدكتاتوريات أن تستمر، فإنها تفعل ذلك على جثث شعوبها. مدن كاملة، من حلب إلى حمص، تحوّلت إلى أطلال. آلاف القرى أُزيلت عن الخريطة، ومعها أُزيلت ذاكرة أجيال من سكانها. كان الدمار جزءًا من خطة مُحكمة هدفها تدمير الروح الوطنية، وكأن النظام يقول لشعبه "إما أنا، أو الخراب".

عشرات الآلاف قُتلوا، وربما مئات الآلاف. لا أرقام دقيقة يمكن أن تحصى الجثث التي امتلأت بها الشوارع والمعتقلات. كان صيدنايا مثالًا حيًا على وحشية النظام؛ حيث تحوّلت السجون إلى مقابر جماعية. في هذا الجحيم، كانت الأرواح تُزهق دون محاكمات، ودون رحمة. إن محاكمة هذا النظام ليست مجرد رغبة سياسية أو مطلب من ضحاياه، بل هي حق للسوريين جميعًا. النظام الذي نهب البلاد، وسحق شعبه لا يمكن أن يُترك دون حساب. يجب أن تبدأ الجهات الحقوقية الدولية حملة شاملة لاستعادة الأموال المنهوبة، وتجريم الأفراد الذين شاركوا في سرقتها. وإنه على المجتمع الدولي أن يُلزم الحكومات الأوروبية والروسية بالكشف عن حجم الأصول والأموال التي أُودعت على أراضيها، والعمل على إعادتها للشعب السوري. كذلك، يجب فتح تحقيقات في العقارات المملوكة لعائلة النظام في العواصم الأوروبية وموسكو، ومصادرتها كجزء من التعويض عن الجرائم التي ارتُكبت بحق السوريين.

إقرأ أيضاً: ما الذي يتوجب على السوريين فعله في لحظة التحول؟

كل طاغية يُصوّر نفسه بطلًا حتى اللحظة الأخيرة. لكن خلف هذا القناع تختبئ خيانة مروعة. حينما اشتدت الثورة، وهزت أركان النظام، لم يكن رد الفعل سوى تهريب الأموال وأفراد العائلة إلى الخارج. تُرك المناصرون، الذين كانوا يصفقون ويرفعون صور الطاغية، لمصيرهم البائس. أولئك الذين هتفوا باسمه، دفعوا حياتهم ثمنًا لخيانة من ظنوه قائدًا لهم. حتى القبور لم تسلم من خيانة النظام. لم يحترم قبور أهله، لقد قايضها بخلاصه وأسرته. لقد خان حتى شقيقه. أسرة شقيقه الأكثر تعطشاً للدم ولم يفركر به. لم يحترم كذلك أرواح من سقطوا بسبب سياساته، وترك أسرهم مجموعين في دائرة الخطر. الخيانة كانت شاملة، ضربت الجذور وأحرقت كل شيء. وحقيقة فإنه ما كان للنظام أن يستمر دون دعم خارجي. إذ كان بقاؤه مرتبطًا بالدول التي جعلته أداة لمصالحها، واولها إيران وربيبها حزب الله وكتائب الحشد الشعبي، وهكذا روسيا بوتين وحينما تسحب هذه الدول دعمها، ستتساقط أركانه كبيت من ورق. لقد كان العالم يتوقع أن يُنهي الحاكم حياته كأي قائد خاسر، لكنه أثبت أنه فاقد للكرامة. لم يمتلك الشجاعة ليطلق رصاصة على رأسه، بل فضّل الهروب كجبان، تاركًا وراءه بلدًا ممزقًا. خيانة الشبيحة حتى من قاتلوا دفاعًا عن النظام، الشبيحة الذين ارتكبوا أفظع الجرائم، تخلّى عنهم حينما انقلبت الظروف. هكذا هي مسيرة الخائن؛ يخون الجميع حتى أقرب مناصريه. إن من كانوا يصفقون ويتملّقون باسم الولاء، لم يكن ولاؤهم سوى خوف وجبن. سقوط النظام يكشف أن هؤلاء لم يؤمنوا به يومًا، بل كانوا يسعون وراء مصالحهم الشخصية، وحينما بدأت الحقيقة تظهر، تسابقوا للتبرؤ من ماضيهم. الثورة كانت درسًا عظيمًا، لكنها لم تُفهم من قبل النظام. بدلا من الإصلاح والاستماع إلى صوت الشعب، اختار الطريق الأسوأ، مستعدًا لقتل الجميع مقابل بقائه. والسؤال: لماذا لم ينتحر؟ هذا سؤال سيظل يتردد في الأذهان كلهم. القادة الحقيقيون، حتى عندما يخسرون، يحتفظون بكرامتهم حتى النهاية. أما هو، فقد أثبت أنه بلا قيم أو كرامة أو شرف، بلا إحساس، وأنه مستعد للتضحية بكل شيء ليظل على قيد الحياة. وأخيراً فإن كل مجرم له نهاية. قد يطول الوقت، لكن الحقائق لا تُدفن. سوريا تستحق العدالة، وشعبها يستحق أن يرى يوم الحساب، حيث يُحاسب كل من خانها وسرقها.

لم يحدث في تاريخ سوريا أن بلغت الفتنة أوجها كما حدث في عهد بشار الأسد، حيث أدار البلاد بمنطق التفرقة والاحتقان الطائفي، مستغلاً التنوع السوري كأداة لترسيخ حكمه وإبقاء جميعهم في حالة توتر دائم. لقد ترك خلفه إرثاً من دواعي الثأر والانتقام، مزروعاً في قلوب السوريين بفعل القمع الممنهج، والدماء التي سالت دون حساب، والآلام التي نُقشت في ذاكرة الأجيال. إلا أن السوريين، رغم هذا الموروث الثقيل، أظهروا وعياً أكبر من المضي قدماً في مخطط التذابح الذي رسمه النظام. فهم يدركون- بعد كل هذه الدروس المريرة- أن خلاصهم يكمن في التعايش، ونبذ كل ما زرعه هذا الحكم المستبد من كراهية وانقسامات، لبناء سوريا جديدة على أسس العدالة والحرية والمساواة.

إقرأ أيضاً: ازدواجية المعايير في المشهد السوري

لا عجب في أن يكون بشار الأسد قد سار على خطى والده، فهو ربيب مدرسة الاستبداد التي أسسها حافظ الأسد، ذلك الجبان الذي لم يكن يملك سوى أدوات القمع والعنف والخطب الطنانة المكتوبة له، لتثبيت أركان حكمه. العنف كان دوماً عنواناً للجبن، وسلاحاً يلجأ إليه من يعجز عن كسب القلوب أو تحقيق العدالة. أضاف بشار إلى هذا الإرث خطاباته الجوفاء المليئة بالأكاذيب والتسويغات التي لم تعد تنطلي على أحد. كانت جميعها من كتابة ورش خاصة من كتابه الديوانيين، مضيفاً إلى ما قدمه أبوه في هذا المجال الكثيرمن الفذلكات التي أراد تقديم نفسه كمثقف لا كببغاء، ملقن، فهو لم يتعلم شيئاً من دروس التاريخ ولا من عبر الثورات التي اجتاحت المنطقة، بل أمعن في السير نحو الهاوية، جاعلاً من سوريا مسرحاً للدمار والخراب. نظامه الذي اعتمد على الكذب والقوة لم يكن يوماً قادراً على الصمود بدون دعم خارجي، وما أن تُرفع هذه الأيدي عنه، سيجد نفسه وحيداً في مواجهة عدالة التاريخ والشعب. لكن السوريين، رغم كل ما عانوه، سيكتبون مستقبلهم بعيداً عن هذا الإرث البائس.