لقي 23 ألف لاجئ مصرعهم وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، من دون أن يغير هذا الأمر سياسة الإتحاد الأوروبي، الذي آثر حماية الحجر، غير عابئ بالبشر.

إعداد عبد الاله مجيد: تعمل وكالة الحدود الأوروبية "فرونتكس" من مكتب في الطابق الثالث والعشرين بناطحة سحاب في العاصمة البولندية وارسو. وترصع جدران المكتب شاشات تنتشر عليها نقاط وخطوط خضراء.

وتشير النقاط إلى أعداد المهاجرين الذين حاولوا عبور الحدود ولم يفحلوا. وتكون النقاط صغيرة ومتباعدة بين ساحل غرب افريقيا وجزر الكناري، ثم تصبح أكثر كثافة في بحر ايجة بين تركيا واليونان. اما الطريق البحرية بين ليبيا وايطاليا فاللون الأخضر يكاد يغطيه بالكامل.

وعندما يتحدث مدير العمليات في وكالة الحدود الأوروبية ضابط الشرطة الالماني كلاوس روزلر، فانه يتحدث وكأن أوروبا حصن مهدد من كل الجهات، مستخدمًا عبارات مثل "عاصفة على الحدود" و"المناطق المكشوفة للخطر" و"معالجة الأزمات".

مأساة فظيعة

وتعزز وكالة "فرونتكس" حراسة حدود أوروبا ضد تدفق اللاجئين منذ العام 2005. لكن الأزمة السورية تواجه الوكالة بملايين اللاجئين الجدد، وبدأت الآن موجة النزوح الثانية من العراق بعد سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية على مناطق واسعة من أراضيه.

وفي البحر المتوسط، تنتشل زوارق خفر السواحل الايطالي لاجئين من مراكب كسيحة على وشك الغرق، أو غرقت فعلًا، كل يوم تقريبًا. وفي ألمانيا، طلب اللجوء زهاء 20 ألف شخص في تموز (يوليو)، وهو أكبر عدد منذ 20 عامًا. ومن المتوقع أن يصل إلى المانيا هذا العام نحو 200 ألف لاجئ، بحسب أرقام مجلة شبيغل.

تتعلق مسألة ضبط الحدود بهوية الإتحاد الأوروبي وقيمه. فعندما قضى 387 شخصًا غرقًا في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي قبالة ساحل جزيرة لامبادوزا الايطالية، وصفت مفوضة الإتحاد الأوروبي للشؤون الداخلية سيسيليا مالمستروم الحادث بأنه "مأساة فظيعة".

وقال الرئيس الالماني يواخيم غاوك إن مشهد التوابيت المرصوفة في صفوف طويلة في مطار لامبادوزا لا ينسجم مع "صورة الأوروبيين عن انفسهم"، داعيًا إلى قبول المزيد من اللاجئين. ويشعر كثير من الأوروبيين بالتعاطف مع مَنْ يخاطرون بحياتهم من اجل الوصول إلى شواطئ أوروبا.

حصن منيع!

لكن سياسات القادة الأوروبيين لم تتغير منذ كارثة لامبادوزا، إذ ليس هناك طريق يمكن أن يستخدمه اللاجئون لدخول أوروبا بصورة قانونية. ومَنْ يرغب في طلب اللجوء في الإتحاد الأوروبي عليه أن يصل إلى دول الإتحاد بصورة غير قانونية اولًا، على قوارب المهربين أو مختبئين في حافلات وشاحنات أو قادمين جوًا بجوازات مزورة. فالإتحاد الأوروبي يوصد ابوابه خشية أن يتزايد عدد الوافدين.

لكن تحويل الإتحاد الأوروبي إلى حصن منيع أوجد ظروفًا ادت إلى موت بشر على حدوده. فالعديد من اللاجئين يختارون طريق البحر المتوسط المحفوف بالمخاطر لأن وكالة الحدود الأوروبية تغلق الطرق البرية بوجههم.

ويتولى روزلر مهمة تنسيق الدفاعات الأوروبية ضد المهاجرين. وارتفعت ميزانية قسمه من نحو 6 ملايين يورو في 2005 إلى زهاء 90 مليون يورو اليوم. وبتوصية من وكالة "فرونتكس"، ترسل دول الإتحاد الأوروبي ضباط شرطة ومعدات رصد إلى مناطق الحدود. وتسيِّر المانيا وفرنسا ورومانيا دوريات مشتركة لحراسة الحدود الأوروبية.

وتنقل مجلة شبيغل عن روزلر قوله: "مهمة فرونتكس السيطرة على الهجرة وليس منعها، لكن نجاح الوكالة يتوقف على درجة نجاحها في الدفاع عن أوروبا ضد المهاجرين غير الشرعيين وبالتالي ضد طالبي اللجوء".

أرقام مريعة

الرقم الذي لا تسجله فرونتكس في احصائياتها هو عدد الأشخاص الذين يلاقون حتفهم على حدود أوروبا الخارجية. اكتشف فريق من الصحافيين الأوروبيين أن 23 ألف شخص لقوا مصرعهم وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا خلال السنوات الأربع عشرة الماضية. وفي اليونان، تؤكد شهادات لاجئين تعرضهم للاعتداء على أيدي ضباط خفر السواحل.

ويستخدم أطباء السجون المجرية بانتظام العقاقير المخدرة لتهدئة اللاجئين في مراكز احتجازهم. وتتحدث التقارير عن سوء معاملة المهاجرين على الحدود المغربية ـ الاسبانية. وبادرت منظمات انسانية إلى توثيق هذه الحوادث.

وتقع كل هذه الانتهاكات في دائرة عمل وكالة فرونتكس، وتُستخدم فيها أساليب تشكل اهانة لما تمثله أوروبا أو ما تقوله انها تمثله من مبادئ انسانية. وتقدر الحكومة المغربية أن ما بين 25 و40 الف مهاجر غير شرعي يقيمون في المغرب، وان نحو 10 آلاف رجل وعددًا قليلًا من النساء يختفون في الأحراش على جبل غوروغو حيث اقاموا مخيمات موقتة.

وهناك ينتظر هؤلاء أن تتوافر فرصة سانحة لعبور الحدود إلى أوروبا، ويطول انتظارهم سنوات بعض الأحيان. وشكل اللاجئون مجموعات حسب البلدان القادمين منها، بمجموعة للنيجيريين ومجموعة للكاميرونيين وأخرى للقادمين من مالي وكذلك للمهاجرين من بلدان أفريقية اخرى.

حقل اختبار

يؤكد الإتحاد الأوروبي انه لا يقبل باستخدام العنف ضد هؤلاء اللاجئين. لكنه ينظر إلى منطقة الحدود المغربية ـ الاسبانية على انها حقل اختبار للسيطرة على الهجرة لاحقًا بتوكيل بلدان متاخمة لحدوده أن تبني دفاعاته ضد المهاجرين.

وتقول شبيغل إن أوروبا دفعت إلى المغرب 68 مليون يورو لحماية الحدود في الفترة الواقعة بين 2007 و2010. وتولت وكالة فرونتكس تنسيق عمليات مشتركة بين قوى الأمن الاسبانية والمغربية.

وعالجت منظمة أطباء بلا حدود 10500 لاجئ مريض او جريح خلال الفترة الواقعة بين 2010 و2012، بعضهم كانوا ضحية حراس الحدود بين اسبانيا والمغرب.

وفي ليبيا يدرب ضباط شرطة ألمان افراد ميليشيات ليبية للانخراط في حرس الحدود ضمن برنامج ترعاه البعثة الأوروبية في ليبيا، رغم تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الانسان عن ممارسة التعذيب في مخيمات اللاجئين في ليبيا.

وكلما ارتفع عدد اللاجئين، كان رد أوروبا المزيد من الاجراءات الرادعة. وخلال السنوات السبع المقبلة يخطط الإتحاد الأوروبي لاستثمار 2,8 مليون يورو اضافية في صندوق جديد للأمن الداخلي. وهناك ايضًا ما تنفقه دول الإتحاد المنفردة لتطوير تكنولوجيا جديدة في مراقبة الحدود بينها روبوتات تحمل كاميرات رصد لطرد اللاجئين.

إلى البحر المفتوح

حاولت السورية رنا وتوأماها (12 عامًا) الهروب إلى أوروبا من بلدها النازف ثلاث مرات، مستخدمة الطريق البري عبر الأراضي التركية. واعتقلتهم قوى الأمن البلغارية مرتين وأعادتهم إلى تركيا، وفي المرة الثالثة اعتقلتهم الشرطة التركية. وفي المرة الرابعة خاطرت رنا بحياتها وحياة طفليها بركوب قارب يديره مهرب يتاجر بالبشر.

وأخذ المزيد من اللاجئين يستخدمون الطريق البحرية الخطرة على غرار رنا. ولقي 218 شخصًا على الأقل حتفهم في بحر ايجة بين آب (اغسطس) 2012 وتموز (يوليو) 2014. وتقول منظمات حقوقية إن خفر السواحل اليوناني أجبر بعض اللاجئين على العودة إلى البحر المفتوح حيث قضوا غرقًا.

وكان أكثر من مليون لاجئ وصلوا إلى تركيا منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، ويقيم ثلثهم في مخيمات موقتة حيث يتلقون وجبات منتظمة ويتعلم اطفالهم في مدارس. لكن غالبية اللاجئين الجدد يُجبرون على تدبير حياتهم من دون معونة.

على حساب الضحايا

يقع على الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي التزام بمراجعة وضع كل لاجئ دوريًا. لكن دولا على اطراف الإتحاد الأوروبي، مثل اسبانيا واليونان وبلغاريا، تتجاهل هذا الالتزام بصورة متكررة. وفي مجرى العمليات غير القانونية لردع المهاجرين، هذه البلدان تعيدهم إلى بلداهم بصرف النظر عن المخاطر التي قد تهدد حياتهم هناك.

ويتربح المتاجرون بالبشر من محنة اللاجئين واستماتتهم للوصول إلى أوروبا، لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى الحدود الأوروبية عمليًا من دون خدماتهم. ودفعت رنا 2500 يورو لإيصالها مع طفليها إلى اليونان، مستخدمة ما اقترضته في سوريا من اقاربها. ودفعت رنا لمهرب آخر مقابل نقل العائلة من اسطنبول في حافلة صغيرة إلى الجنوب، ومن هناك إلى اليونان.

ودفعت رنا المبلغ إلى وسيط كان من المفترض أن يدفعه إلى المهرب بعد اقتطاع حصته فور الوصول إلى الإتحاد الأوروبي. وفي المحاولة الأولى أوقفت الشرطة التركية سيارتهم واعتقلت السائق، لكن بعد اسبوع تمكن اللاجئون من الوصول إلى ازمير.

ويبين هذا أن عصابات تقاسمت بينها تجارة الهجرة في تركيا، وان زعماء هذه العصابات يستخدمون اللاجئين لمساعدتهم مقابل عمولة عن تهريبهم من ازمير إلى الشواطئ اليونانية.

ساحة حرب

بموجب اتفاق وقعه الإتحاد الأوروبي مع تركيا، وافقت انقرة على قبول اللاجئين الذين يُعادون اليها من أوروبا، مقابل الغاء تأشيرة سفر المواطنين الاتراك إلى أوروبا. وهذه محاولة اخرى من جانب الإتحاد الأوروبي لمنع اللاجئين قبل وصولهم إلى حدوده. لكن الشرطة التركية لا تراقب طرق المهربين إلا بصورة متقطعة، لأن المنطقة أكبر من قدراتها.

ويقول اللاجئ السوري فارس، الذي يعمل مع عصابات تهريب مقابل عمولة، إن بعض المسؤولين الاتراك يتقاضون رشوة من المهربين. وكانت رنا وطفلاها وصلوا إلى الساحل التركي بعد قضاء ليلة في ازمير، حيث وضعهم المهرب في قارب إلى اليونان. وبعد رحلة خطيرة استغرقت اربع ساعات، وصلت رنا واللاجئون الآخرون إلى جزيرة ليسبوس من دون أن تكتشفهم الدوريات اليونانية.

وبموجب القوانين اليونانية والأوروبية، يجوز لخفر السواحل اليوناني أن يعتقل اللاجئين الذين يصلون إلى المياه اليونانية، لكن لا يجوز إعادتهم إلى تركيا. ويسافر غالبية المهاجرين في قوارب غير صالحة للإبحار، ويقول ضباط في خفر السواحل اليوناني انهم كثيرا ما ينقذون لاجئين من الغرق.

أساليب وحشية

لكن منظمات حقوقية تتهم خفر السواحل اليوناني باستخدام اساليب وحشية احيانا لردع المهاجرين. وفي العام الماضي تحدث لاجئون سوريون في شهادات لهذه المنظمات عن تعرضهم لمعاملة سيئة على أيدي الدوريات اليونانية.

ويقول عضو البرلمان اليوناني كوستانتينوس تريانتافيلوس إن الانتهاكات التي تُرتكب ضد حقوق الانسان في بحر ايجة تشير إلى ازمة عميقة في سياسة الإتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين والمهاجرين، وان الإتحاد الأوروبي ينيط بدوله الطرفية مهمة مستحيلة، وهي غلق الحدود تمامًا من جهة، وانقاذ الأرواح من الجهة الأخرى. وتواجه السلطات الايطالية مأزقًا مماثلا.

غير إنسانية

في العام 2011، حذرت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة من أن حراس مراكز اللجوء المجريين يستخدمون مواد مخدرة لتهدئة المهاجرين. وقال مسؤول ملف حقوق الانسان في البرلمان المجري ماتي سابو إن عشرات الآلاف من الحبوب المخدرة أُعطيت في غضون عام واحد إلى 922 نزيلا في سجن نيرباتور الذي يُحتجز فيه لاجئون.

وتنقل مجلة شبيغل عن سابو قوله إن الظروف في هذه المراكز اسوأ من السجون الاعتيادية. فاللاجئون ينامون على فرش مهترئة في زنازين مزدحمة، وان عدم توافر المرافق الصحية يجبرهم على التبول في قنان بلاستيكية. والمهاجر الذي يحتاج إلى طبيب أو مراجعة دائرة حكومية يُقاد عبر المدينة مكبلًا ومربوطًا.

ولا يوجد في المجر نظام لجوء أو بنية تحتية للتعامل مع اللاجئين. والمراكز القليلة المتوفرة تغص باللاجئين حتى أن بعضهم نُقلوا إلى ثكنات عسكرية سابقة أو مبان عامة جرى تحويلها إلى سجن. وتكون أسباب القبض على المهاجرين اسبابًا اعتباطية ومبهمة. والقاعدة المتبعة هي احتجاز اللاجئ مدة شهر دون أن يرتكب جريمة. وانتقدت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الظروف في سجون اللاجئين قائلة انها "غير انسانية ومهينة".&

ويدعو الإتحاد الأوروبي بلغاريا إلى منع اللاجئين من الاقتراب من الحدود، ويأمل في أن تتمكن صربيا من ردعهم عن الوصول إلى المجر. ويسيِّر ضابط فرونتكس دوريات على امتداد الحدود المجرية ـ الصربية. واعتمدت الحكومة الصربية نظاما للجوء في العام 2008، لكنها منذ اعتماده لم تمنح حق اللجوء إلا لثلاثة اشخاص.

عار أوروبا

بحسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، أكثر من 50 مليون شخص هُجروا العام الماضي، وهو أكبر رقم منذ الحرب العالمية الثانية. وتستقبل البلدان النامية 90 بالمئة منهم، ومليون سوري يعيشون الآن في لبنان البالغ عدد سكانه 4 ملايين نسمة، في حين أن 81015 سوريا فقط طلبوا اللجوء في الإتحاد الأوروبي خلال السنوات الثلاث الماضية.

ويقول فولكر تورك، مدير الحماية الدولية في المفوضية، إن الهجرة إلى أوروبا اقل بكثير منها إلى بلدان مثل لبنان، "وأقل من ذلك فرص شمول اللاجئين ببرنامج اعادة التوطين الذي يوزع اللاجئين من مناطق النزاع مثل سوريا أو جنوب السودان على بلدان آمنة، من دون المرور باجراءات بيروقراطية".

وتعمل المفوضية على اعادة توطين 94 الف لاجئ، وقبلت الولايات المتحدة أكثر من 50 الف شخص في اطار برنامج اعادة التوطين، في حين استقبل الإتحاد الأوروبي بأكمله ما يربو على 5000 لاجئ، واستقبلت ألمانيا 300 لاجئ.

وقالت مالمستروم: "عار على الأوروبيين أن يقبلوا هذا العدد الضئيل من اللاجئين، وعلى الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي أن تفعل أكثر بكثير لمساعدة الهاربين من الجوع والفقر والعنف في بلدانهم".

باختصار، حمى الإتحاد الأوروبي حدوده، وعليه أن يبدأ بحماية البشر.