سنجار: يترقب مهدي أبو عناد هطول المطر على مزرعته الواسعة في قضاء سنجار بشمال العراق، فتلك هي الطريقة الوحيدة الآمنة التي يسقي بها زرعه وهو غير واثق من حصاده يوما، إذ يخشى التعرض لاعمال انتقامية عند عودته الى أرضه.

حال أبو عناد كحال الكثيرين من العرب السنّة، الذين لا يجرؤون على العودة إلى أراضيهم، خوفا من الوقوع ضحايا انتقام مجتمعي في شمال العراق المتعدد الأقليات.

أدى اجتياح تنظيم داعش للعراق في العام 2014، إلى تفكك روابط التعايش بين الأقليات الدينية التي تتخذ من المناطق الجبلية المحاذية لسوريا شمالا موطنا لها.

واليوم، وبعد أكثر من عام على إعلان السلطات "تحرير" كامل محافظة نينوى وكبرى مدنها الموصل، التي كانت العاصمة السابقة لـ"الخلافة" في العراق، لا تزال الجراح كبيرة.

فمن جهة، يؤكد أبناء الطائفة الأيزيدية التي تعرضت لاضطهاد كبير وطالتها عملية "إبادة محتملة" وفق الأمم المتحدة، إنهم "أكثر من عانى".

وفي المقابل، تتوجه أصابع الاتهام إلى العرب السنّة بمساندة التنظيم المتطرف، ويعتبرون أنهم يدفعون ثمن انتمائهم الديني.

"ليس الجميع كذلك"

يقول &أبو عناد، وهو فلاح كان من بين الملايين الذين نزحوا عن قراهم هربا من حكم الجهاديين "نحن متهمون بالانتماء إلى داعش، لأنهم أتوا إلى المناطق السنية، لكن داعش لا يمثل السنة" الذين يعتبرون أقلية في العراق، إذ أن المسلمين الشيعة يشكلون أكثر من ستين في المئة من السكان.

ويضيف صاحب المزرعة التي لا يعودها إلا بمرافقة قوات عسكرية من فصائل الحشد الشعبي نادرا ولبضع ساعات، "نحن لا نقول إن أحدا من المنطقة لم ينتم إلى داعش، بلا هناك من انضم إليهم، لكن هذا لا يعني أن الجميع كذلك".

ويعتمد نحو ثلث سكان العراق على الزراعة كمصدر رزق وحيد لهم.

ويتابع هذا المزارع البالغ من العمر 48 عاما، ويعيش اليوم في أحد المنازل المهجورة على بعد عشرة كيلومترات تقريبا من مزرعته، إن "هذه المنطقة مهجورة الآن (...) لقد تركنا هذه الأرض لأربع سنوات من غير زراعة، خوفا على أرواحنا".

فبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، اشتعلت فتيلة أعمال الثأر في العام 2017. ونشرت المنظمة تقريرا في ذلك العام مفاده أن مسلحين أيزيديين خطفوا وأعدموا 52 مدنيا من قبيلة سنية في شمال العراق، انتقاما من انتهاكات عناصر تنظيم داعش.

وعليه، يلفت أبو عناد إلى أن الرجاء اليوم هو أن يجلس "زعماء العشائر العربية وكبار رجال الدين من الطائفة الأيزيدية جلسة صلح، كي نعود إلى أرزاقنا وأراضينا، وهم أيضا".

وفي حال جرت عملية مصالحة حقيقية، قد تجنب منطقة سنجار دوامة ثأر دامية، وتضع حدا لأربع سنوات من حرق للأراضي والآبار والمنشآت الأخرى التي دمرت بفعل المعارك أو عمليات انتقام.

وقد تكون تلك المصالحة أيضا، سبيلا وحيدا لعودة 1,8 مليون عراقي لا يزالون في مخيمات النزوح.

"خانوا التعايش"

لكن قبل الدخول في عملية مماثلة، يشترط رجل الدين الأيزيدي الشيخ فاخر خلف، الذي عاد مؤخرا إلى منزله في سنجار بعد رحلة نزوح استمرت ثلاثة أعوام، أن يحاسب المذنبون على جرائمهم.

يقول خلف الذي يلف رأسه بكوفية حمراء وبيضاء ويرتدي عباءة سميكة بنية اللون تبرز سواد لحيته، إن "عرب سنجار كانت لهم يد في اختطاف نسائنا، لقد خانوا التعايش، لذا في رأيي، فإن هؤلاء الناس لا يمكنهم العيش معنا بعد الآن".

ويؤكد أن "من كانت أياديهم نظيفة، نكن لهم الاحترام. لكن أولئك الذين تلطخت أيديهم بالدماء، عليهم مواجهة العدالة، وإلا فإن سنجار ليست مكانا لهم".

لا تزال مدينة سنجار اليوم مدمرة بنسبة 70 في المئة، ولم تعد إليها إلا ستة آلاف عائلة، غالبيتها من الأيزيديين وقلة من الشيعة.

فقبل العام 2014، عاشت نحو 50 ألف عائلة من أكراد وعرب سنة وشيعة، ومسيحيين، بتناغم في ما بينهم.

يلفت المتحدث باسم المجلس النروجي للاجئين في العراق توم بير-كوستا إلى أن التوترات بين المكونات هي السبب الرئيس لعدم عودة السكان حتى الآن، ثم تأتي مسألة المنازل المهدمة وغياب الخدمات العامة.

"لا يوجد خطة"

ورغم أن الأنقاض لا تزال تغطي المدينة المقفرة حتى اليوم، "فنحن نرى خططا لإعادة الإعمار والتأهيل، لكننا لا نرى خططا حقيقية للمصالحة"، وفق ما يؤكد كوستا لفرانس برس.

ويضيف أنه "ما دام أن التعايش لم يعد ممكنا بسبب التوترات بين المكونات المحلية، ينبغي أن تكون المصالحة أولوية (...) نحن في حاجة إلى حوار بين تلك المكونات وإلى محاكمات عادلة وشفافة تضمن الحكومة أن يساق إليها كل مرتكبي الجرائم".

وبحسب مصادر قضائية عراقية، حكمت محاكم العراق على المئات من الأشخاص بتهمة الانتماء إلى تنظيم داعش، بينهم أكثر من 300 بالإعدام.

ولكن في المحافظات التي كانت خاضعة لسيطرة الجهاديين على مدى ثلاث سنوات، لا يزال البعض يتهم أقرباءه أو أشخاصا يعرفهم، بالانتماء إلى التنظيم المتطرف.

أما بين الأيزيديين الذين لا يزال نحو ثلاثة آلاف منهم في عداد المفقودين، بينهم نساء ربما لا يزلن في قبضة تنظيم داعش الذي اتخذهن سبايا استعباد جنسي. هؤلاء يحتجن وقتا طويلا ليقتنعن بالتعايش الذي كان سائدا قبل دخول الجهاديين.