عاد اللبنانيون إلى الشوارع مجدداً، غير آبهين باجراءات منع التجول التي فرضها فيروس كورونا، مع بلوغ الأزمة الاقتصادية في البلاد طريقاً مسدوداً ومعاناة المواطنين من موجة غلاء غير مسبوقة.

وتجددت الثلاثاء المواجهات بين محتجين غاضبين ووحدات الجيش في مدينة طرابلس في شمال لبنان، بعد تشييع متظاهر توفي متأثراً بطلق ناري أصيب به خلال مواجهات مماثلة ليلاً.

وتأتي التحركات التي تخللها حرق عدد من المصارف وتحطيم واجهات بعضها الآخر، في خضم انهيار اقتصادي بدأت ملامحه منذ العام الماضي، دفع بمئات آلاف اللبنانيين إلى الشوارع بشكل غير مسبوق في أكتوبر ناقمين على الطبقة السياسية التي يتهمونها بالفساد وفشلها في تحسين الوضع الاقتصادي.

وأطاحت التظاهرات الحكومة السابقة، فيما لم تتمكن الحكومة الجديدة منذ مطلع العام من اتخاذ أي اجراء يخفّف من معاناة المواطنين.

ورشق المتظاهرون بعد ظهر الثلاثاء القوى العسكرية بحجارة اقتلعوا بعضها من أرصفة الشوارع. وحطموا واجهات خمسة مصارف وأضرموا النيران في عدد منها. كما أحرقوا سيارتين لقوى الأمن. ورد الجيش باطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي في محاولة لتفريقهم.

وشيّع المتظاهرون الشاب فواز السمان (26 عاماً) الثلاثاء إثر وفاته متأثراً بطلق ناري أصيب به واتهمت عائلته عناصر الجيش بإطلاقه، في وقت أبدت قيادة الجيش "بالغ أسفها" لمقتله مؤكدة "انها فتحت تحقيقاً بالحادث".

وبحسب قيادة الجيش، أوقعت المواجهات ليلاً أربعين مصاباً في صفوفها، بينما أفادت هيئة صحية محلية عن إصابة كثر من عشرين من المتظاهرين.

ويحتج المتظاهرون على الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الاستهلاكية وخسارة قدرتهم الشرائية مع تدهور قيمة الليرة. ويشكو كثيرون من عدم قدرتهم على تأمين لقمة عيشهم خصوصاً خلال شهر رمضان.

وأوضح خالد (41 عاما) لفرانس برس أنه شارك في التظاهرة بعدما خسر عمله في بيع قطع تبديل السيارات ولم يعد قادراً على تأمين حاجات أولاده الثلاثة.

وقال "نزلت لأرفع صوتي ضد الجوع والفقر والغلاء والظلم.. لأطالب بأبسط حقوقنا المعيشية"، منتقداً العنف الذي مارسته القوى الأمنية بحق المتظاهرين.

غلاء وبطالة

وأسفرت المواجهات ليلاً وفق قيادة الجيش عن تعرّض ثلاثة مصارف وعدد من الصرافات الآلية للحرق واستهداف آلية عسكرية ودورية في المدينة. وأوقفت تسعة أشخاص "لإقدامهم على رمي المفرقعات والحجارة".

وأقفلت جمعية المصارف كافة البنوك في طرابلس بدءاً من الثلاثاء "بسبب الإعتداءات".

وقطع عشرات المتظاهرين طرقاً عدة في البلاد في الليلتين الأخيرتين، كما نظموا تحركات احتجاجية أمام عدد من المصارف. وعمل الجيش على فتح الطرق ما أوقع 14 إصابة أخرى في صفوفه وأوقف أربعة متظاهرين.

وعصر الثلاثاء، تجمّع عشرات المتظاهرين عند جسر الرينغ المؤدي الى وسط بيروت، محاولين قطعه امام حركة السيارات، بينما تصدت لهم القوى الأمنية.

وأقرّ رئيس الحكومة حسّان دياب خلال جلسة عقدتها الحكومة، بحسب كلمة وزعها مكتبه الاعلامي، بأن "الأزمة المعيشية والاجتماعية تفاقمت بسرعة قياسية".

وأبدى تفهمه "صرخة الناس" إلا أنه أكد رفضه تحويل المطالب "إلى حالة شغب". وحذر من "وجود نوايا خبيثة خلف الكواليس لهزّ الاستقرار الأمني" واصفاً ذلك بأنه "لعب بالنار"، في وقت تواجه حكومته حملة من القوى السياسية المناوئة لها.

وفاقمت اجراءات الاغلاق التي اتخذتها الحكومة منذ منتصف مارس في إطار مكافحة فيروس كورونا الذي سجل 717 إصابة بينها 24 وفاة، الأعباء المعيشية الملقاة على عاتق المواطنين.

وتزامن ذلك مع بلوغ سعر صرف الليرة عتبة أربعة آلاف مقابل الدولار في السوق الموازية فيما السعر الرسمي ما زال مثبتاً على 1507 ليرات. وانعكس ذلك على القدرة الشرائية. وتضاعفت أسعار الخضر والفواكه واللحوم. فارتفع سعر كيلوغرام الحامض مثلاً من ألف ليرة الى أكثر من أربعة آلاف وحفاضات الأطفال من عشرين إلى ثلاثين ألفاً وكيلوغرام لحم البقر من 18 إلى 32 ألفاً.

وقدّر وزير الاقتصاد راوول نعمة نسبة ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية بـ 55 في المئة.

وبحسب تقديرات رسمية، يرزح 45 في المئة من اللبنانيين حالياً تحت خط الفقر. وخسر عشرات الآلاف مورد رزقهم أو جزءاً من رواتبهم خلال الأشهر الستة الماضية. وأقفلت مجمعات تجارية وفنادق عريقة وشركات صغيرة ومتوسطة أبوابها.

"انفجار اجتماعي"

ومنذ توليها مهامها مطلع العام، أعلنت الحكومة أنها ستنكبّ على وضع خطة إنقاذية للنهوض بالاقتصاد واجراء اصلاحات ملحة، من دون أن تُقدم بعد على أي اجراء عملي وسط تفاعل أزمة السيولة وشح الدولار.

ويقول الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي سامي نادر لفرانس برس "حتى الآن، لم تفعل الحكومة شيئاً باستثناء تعليق دفع سندات اليوروبوند (..) لم تتخذ أي إجراء باتجاه الاصلاح".

ويرى أن الحكومة، التي هاجم رئيسها الجمعة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بشدة محملاً اياه مسؤولية التدهور السريع في سعر الصرف، "تطرح مقاربة غير متوازنة بتركيزها على الموضوع النقدي والمصرفي، وهو ضروري جداً، لكن من دون إغفال أو القفز فوق الاصلاحات في الكهرباء والقطاعات المنتجة والمرفأ".

ويعدّ لبنان من أكثر الدول مديونية في العالم، مع ديون بقيمة 92 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من 170 في المئة من ناتجه المحلّي.

وخرجت أموال هائلة من المصارف رغم قيود مشددة على السحب بالعملة الخضراء والتحويلات. وقال دياب الجمعة إن 5,7 مليارات دولار من الودائع خرجت خلال الشهرين الأولين من العام الحالي، غالبيتها إلى الخارج. وتضاف إلى 2,3 مليار دولار تم تحويلها خلال آخر شهرين من عام 2019.

ويحذّر نادر من أن البلاد "مقبلة على انفجار اجتماعي لا محالة، مع خسارة الليرة نحو مئتين في المئة من قيمتها، وانحسار القدرة الشرائية للمواطنين" مبدياً خشيته من "سقوط حر من دون أي كابح أو مظلة".