يوماً بعد يوم منذ اندلاع عامية ١٧ تشرين ووباء كورونا وانفجار مرفأ بيروت، يشعر الناس في لبنان بأنهم يعيشون في جمهورية رئيسها غائب، وإذا ظهر يزداد غيابه.
ويوماً بعد يوم تنتشر أخبار عن تسليم شؤون الرئاسة إلى آخرين أبرزهم ثلاثي من الوزراء السابقين جبران باسيل وسليم جريصاتي، وناجي البستاني الذي انضم أخيراً إلى الفريق. حين تشير معلومات إلى حرص في القصر الجمهوري على عدم إبلاغ الرئيس بالأخبار السلبية المتعلقة بالانهيارات التي تعيشها كل القطاعات في البلاد لئلا تنعكس على صحته.
معلومات تفسر نظرة الرجل الوردية إلى المستقبل في المدة الفاصلة عن انتهاء ولايته، وكلامه المتكرر شبه الأكيد على أنه سيسلم لبنان أفضل مما كان قبل بداية ولايته، رغم أن كل شيء كل شيء يؤكد النقيض، إلى درجة حديث الدول والمنظمات الأممية عن احتمال مجاعة تقترب في لبنان.
هل هو تعب وإنكار ناتجان من تقدم في العمر، أو تراجع في الحيوية والحضور بسبب إحباطات متلاحقة يمكن أن تدهم المرء وتشلّه في أي سن؟
في حالة الرئيس ميشال عون يُضاف سؤال جوهري: لماذا يخفي أي إنسان عمره الحقيقي، يصغّره أو يكبّره؟ ثمة أسباب للنساء ربما. ماذا إذا صار مَن أخفى عمره رئيس دولة؟
المجتمع اللبناني في تقاليده ويومياته يحترم الكبار وحكمتهم. وعائلات لبنان من طبيعتها أن تغمرهم بالمحبة والتكريم. ولكن هل ينطبق هذا الموقف من الكبار على الجميع؟
الواقعة الآتية وقعت في 18 و19 أغسطس 1988 بالضبط:
حدّد رئيس مجلس النواب وقتها حسين الحسيني جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميّل في 18 آب. كان واضحاً أن المرشح الرئيس سليمان فرنجية ، الجدّ طبعاً، مدعوماً من صديقه الرئيس السوري حافظ الأسد سيفوز فيها إذا انعقدت. سارع قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون إلى عقد اتفاق مع قائد "القوات اللبنانية" تلك الأيام سمير جعجع على تعطيل نصاب الجلسة من خلال منع النواب المقيمين في ما كانت تُسمّى"المنطقة الشرقية" من الوصول إلى مقر مجلس النواب الموقت، وكان في قصر حسين منصور قرب المتحف.
تولى عناصر "القوات" إقامة حواجز أقفلت أمام النواب كل طرق الوصول إلى البرلمان بالتفاهم الضمني مع قيادة الجيش، وأبلغت "القوات" النواب بالموقف فتجاوبت غالبيتهم، لكن بعضهم أصرّ على التوجه إلى مجلس النواب والتصويت، فمُنع من مغادرة منزله.
هذه تفاصيل وليست الخبرية.
طلعت السيدة صونيا فرنجية، كريمة الرئيس فرنجية، إلى مقر وزارة الدفاع في اليرزة في موعد انعقاد الجلسة لتلتقي الجنرال عون وتطلب منه منع "القوات" من إقفال الطرق أمام النواب، لكنه تهرب منها ولم يستقبلها كما روت لاحقاً في كتاب مذكراتها الذي حمل عنواناً شعار والدها الرئيس الراحل: "وطني دائماً على حق". الأرجح أن الجنرال آنذاك لم يكن يريد سماع رأيها فيه باللهجة الزغرتاوية . وقد أطفأت الكثير من السكائر بسكربينتها على بلاط مكتبه في اليرزة، وأسمعت الحضور كلاماً بحقه قبل أن تغادر المكان.
ليست هنا الخبرية.
في اليوم التالي ١٩ أغسطس ١٩٨٨، استقبل الجنرال عون زميلاً صحافياً قريباً منه- أثق بصدقه في نقل ما حصل- سأل الجنرال ألم يتجاوز صلاحياته كقائد للجيش في اتفاقه مع قائد ميليشيا على منع انعقاد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية؟
أجابه الجنرال عون: "يا أخي كيف يعني سليمان فرنجية بدو يرجع يعمل رئيس جمهورية. رئاسة الجمهورية منها مزحة أبداً، بدها شخص يكون قادر يشتغل 20 ساعة على 24. سليمان فرنجية عمره تمانين سنة. ما بيقدر يركز أكتر من ساعة أو ساعتين بالنهار. بهالعمر ما بتعود تعرف أيمتى بيكون خرفان وأيمتى بيكون واعي. الرئاسة بدها حدا يكون شابّ ومنتج. يروح (...)!".
سنة 1988 كان عمر الرئيس الراحل سليمان فرنجية 78 سنة وليس 80، فهو من مواليد 1910. أما الجنرال ميشال عون فمن مواليد 1933 بحسب النبذة المنشورة عنه حتى اليوم على صفحة الجيش اللبناني.
وفي السيرة الذاتية التي وزعها المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري يوم انتخاب عون رئيساً أنه من مواليد 1933 والتحق بالمدرسة الحربية سنة 1955 وتخرج ملازماً أول مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب في 30 سبتمبر 1958، أي في الذكرى الخامسة والعشرين لعيد ميلاده.
ويؤكد رفاق له في صفه تلميذاً في مدرسة الفرير- الجميزة أنه من عمرهم: 87 سنة.
لكن المحيطين بالرئيس يتشبثون بأنه من مواليد 1935، والأغرب زيادته في حديث ذكريات إلى الصحافيَين الزميلين في "الأخبار" وفيق قانصوه ومها زراقط (نشر في 25 فبراير 2009) أنه دخل المدرسة الحربية سنة 1952، أي بعمر 17 سنة خلافاً لسيرته في الجيش وللمنطق أيضاً. فالملازم الأول ميشال عون تسلم سيف التخرج من الرئيس فؤاد شهاب بعد أسبوع فقط من توليه الرئاسة. تحديداً في 30 سبتمبر 1958. فيكون دخل المدرسة الحربية سنة 1955 لأن الدراسة فيها تمتد 3 سنوات.
خلاصتها أن الرجل قد يكون تلاعب بعمره لسبب ما ربما تعلق بتمديد خدمته في الجيش، على غرار استحصال صهره العميد شامل روكز على شهادة صحية تفيد بأنه "مُعتلّ نهائياً" تتيح له الاستحصال على تعويضات مضاعفة، فيما هو يركض بنشاط على قمم الجبال.
ولكن ليس هذا الموضوع.
يمكن المرء أن يكون بلياقته الكاملة ذهنياً ومعنوياً وصحياً وإن كان على أبواب التسعين. المعضلة تتمثل في أن رئيس الجمهورية لا يوحي أنه حاضر تماماً بالمستوى الذي تستدعيه النكبة التاريخية لدولة صودف أن 100 سنة بالتمام والكمال مرّت على نشوئها، وأبناءها يتهددهم الجوع الذي فتك بأجدادهم. والرئيس ليس من النوع الذي يخضع لضغوط أو مطالبات بالاستقالة تمهيداً لقيام سلطة إنقاذية حيوية وتنشر الثقة بورشة النهوض والحلول داخلياً وخارجياً، بدءاً من رأس هرم الدولة ونزول.
والحال أن الاستمرار على هذا المنوال سنتين إضافيتين من المُحال. مَن يُمكنه إقناع رئيس غائب بالتنحي؟​