ربما تمكنت تكون القوات الفيدرالية الإثيوبية بالفعل من السيطرة على ميكيلي،عاصمة إقليم تيغراي شمال البلاد، بعد مواجهات دامية دارت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية مع الجبهةالشعبية لتحرير تيغراي.

كل التحليلات والأنباء لا تزال مبنية حتى الآن على ما تقوله أديس أبابا وحدها حيث لا تتوفر في المقابل أي تقارير مستقلة وموثوقة من تيغراي إلا في ما ندر بسبب عزل الإقليم عن العالم.

من الأرجح أن يكون الخلل في موازين القوة الذي يميل لصالح القوات الفيدرالية الإثيوبية هو ما أجبر قادة الجبهة على إخلاء المدينة، وترك بعض الدبابات وقطع المدفعية، والانسحاب نحو الجبال بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة.

وهذا أيضاً ما يفسر أموراً ثلاثة:

أولأ، ذلك الانسحاب جعل دخول القوات الفدرالية يبدو سريعاً وسهلاً وغير مكلف بشرياً أو مادياً، وربما دون مقاومة تذكر.

ثانياً، الجبهة قررت أن تستدرج الجيش الفيدرالي إلى سيناريو جديد للصراع وهو حرب العصابات، المربع الذي تجيد العمل عليه استناداً إلى خبراتها المتراكمة طوال سنوات القتال ضد نظام الرئيس الراحل منغيستو هيلا مريام وخلال جولتين من الحرب مع إريتريا.

ثالثا، قناعة الجبهة بأنها لن تكون في مواجهة الجيش الإثيوبي وحده، بل إن الجارة الشمالية إريتريا في نظر قادة الجبهة حليف مؤكد لقوات رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، وضالعة في مخطط الهجوم عليها. ولعل هذا كان السبب في إطلاق مقاتلي الجبهة ستة صواريخ على اسمرا العاصمة الاريترية قبل ساعات من إعلان أبي أحمد السيطرة على ميكيلي.

وكان مقاتلو جبهة تحرير تيغراي أطلقوا قبل ذلك صاروخين على الأقل على العاصمة الإريترية أسمرا رداً على ما قالوا إنه غض نظر من قبل اريتريا عن عمليات التفاف لقوات أبي أحمد على الإقليم بمحاذاة حدوده مع إريتري ، وكذلك لاستقبال اسمرا جرحى من قوات أديس أبابا دون جرحى الإقليم ونازحيه.

غير أن أسمرا وأديس أبابا تنفيان ذلك وتقولان إنه "لا يوجد دليل لدعم هذا الادعاء" وأن "الادعاءات الملفقة لجبهة تحرير تيغراي تهدف إلى تدويل المواجهة".

map
BBC

لكن مراقبين عديدين في إثيوبيا والمنطقة يقولون إنهم يرون ظلالاً لإريتريا على الصدام المسلح شمال إثيوبيا بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وقوات الحكومة الفيدرالية، وإن يدها تلعب حتماً دوراً في هذا النزاع ولو من "وراء ستار".

جذور الصراع

يعود أساس هذا النزاع في تيغراي والتدخل المرجح لإريتريا فيه إلى انهيار تحالف السنوات السبع عشرة خلال القرن الماضي بين جبهة تحرير تيغراي والجبهة الشعبية لتحرير إريتريا اللتين خاضتا حرباً ضروساً للإطاحة بنظام الرئيس الراحل "منغيستو هيلا مريام" عام 1991.

لقد كلف ذلك النزاع الإقليم وحده ما يزيد على 60 ألف قتيل، وعشرات الآلاف ممن أصيبوا بإعاقات دائمة ومئات الآلاف من المشردين والنازحين.

وكان من نتائج ذلك التحالف للإطاحة بنظام منغيستو أن دعم زعيم جبهة تحرير تيغراي حينذاك، ميليس زيناوي، طموح صديقه ورفيق سلاحه وحليفه، أسياس أفورقي، لمنح اريتريا استقلالها في 3 مايو/أيارعام 1991.

لكن ذلك الدعم كان مشروطاً بعدة اتفاقات مهمة:

- إلتزام الطرفين بالتعاون التام بينهما في قضايا الأمن والدفاع المشترك.

- استخدام إثيوبيا لميناءي عصب ومصوع الإريتريين على البحر الأحمر كمنفذين بحريين لتجارتها من وإلى العالم.

- الإبقاء على العملة الإثيوبية (البرّ) كوحدة نقد مشتركة للبلدين إثيوبيا وإريتريا.

غير أن شهرالعسل هذا لم يدم طويلاً ، إذ سرعان ما بدأت إريتريا بالمطالبة بترسيم الحدود بين البلدين، كما شرعت في إعادة إصدار عملتها الوطنية القديمة الخاصة بها "النقفة " بدلاً من العملة الإثيوبية بدعوى دعم استقلالها الاقتصادي، وإلى جانب ذلك دبت الخلافات بين البلدين بشأن رسوم استخدام الموانئ الإريترية من قبل إثيوبيا والتجارة العابرة للحدود.

وعلى امتداد الحدود بين البلدين البالغ طولها ألف كم انفجر فجأة صراع مدمر خلال جولتين، بدأت الأولى في 6 مايو/ آيار 1998 والثانية في 18 يونيو/ حزيران 2000.

مشاهدات من مسرح القتال السابق

بعد يومين من انفجار الموقف عسكرياً، آنذاك، كنت مع مجموعة صغيرة من المراسلين الغربيين قد وصلنا إلى قاعدة "أندو سلاسي" العسكرية في منطقة "شيرارو" بالقرب من جبهة "باديما" الغربية المشتعلة على خطوط التماس مع إريتريا.

وبعد أيام جرى نقلنا عبر مناطق مختلفة من الحدود مع إريتريا إلى أن وصلنا إلى مدينة "ميكيلي" عاصمة إقليم تيغراي.

كانت الرحلة طويلة ومضنية خاصة أنها كانت بواسطة سيارات كل نوافذها مغطاة بالتراب بشكل متعمد لا يسمح لأحد غير السائق برؤية أي شيء عبر فتحة صغيرة في الزجاج الأمامي أمام مقعده.

تم نقلنا إلى نقطة قريبة من بلدة "أديغرات" وسط البلاد غير بعيد من خطوط القتال.

كان الألوف من الرجال المزودين بأسلحة اوتوماتيكية خفيفة وبعض الأسلحة المتوسطة يحتشدون في ذلك المكان، وهناك وجدنا رجلاً قصيراً رث الثياب وذا لحية كثيفة، بدا لي قائداً وربما شيخاً قبلياً يقوم بحشد المقاتلين وتعبئتهم قبل الدفع بهم إلى مختلف خطوط المواجهة.

لفت انتباهي إجادته اللغة الانجليزية وبعض بريق من ذكاء يشع من عينيه، لفت انتباه الرجل وجودي كعربي وحيد من بين المجموعة الغربية القادمة من قنوات وصحف دولية مختلفة لتغطية الحرب. سألني عن هويتي فقلت له إنني من اليمن، ثم سألني عن خطة عملي للأيام القادمة ، فأجبته بأنني سأمضي أسبوعاً في الجبهة ثم أعود إلى أديس أبابا لإجراء مقابلة مع رئيس الوزراء ميليس زيناوي. فأضاف سؤاله: هل التقيت الرجل أو عرفته من قبل؟ أجبته بالنفي ، فتمنى لي التوفيق في مهمتي.

تحت القصف والنار

تقدمت مع القوات الإثيوبية، متوغلاً داخل الأراضي الإريترية، وذلك من منطقة (أدي كوالا) المدمرة، متوجهاً نحو بلدة (مندفرة) التي تبعد نحو أربعين كيلومتراً من العاصمة أسمرة، كما قمت لاحقاً بتغطية جانب من القتال في جبهة (زلامبيسا) في القاطع الأوسط من الحدود.

لن تنمحي من الذاكرة تلك المشاهد التي رأيتها في جبهات القتال حيث كانت مئات الجثث من جنود الجانبين مجندلة على أرض المعركة وإن كان الإثيوبيون يسارعون في العادة إلى أخذ جثث قتلاهم بعيداً عن أعين المقاتلين القادمين للحفاظ على معنوياتهم عالية. فاقت هذه الخسائر في الأرواح 80 ألفاً من الطرفين إلى جانب أضرار مادية فادحة لحقت بالبلدات والقرى الحدودية وفي العمق الإريتري.

همس في إذني مقاتل أروميٌ إثيوبي بإنجليزية ركيكة بأن "هذه حرب زيناوي وتيغراي مع أفورقي وإريتريا وليست حربنا".

رسخت تلك العبارة قناعتي بأن ما نشهده صراعاً ذا وجهين، شخصي من ناحية وعرقي من ناحية أخرى، وجعلني أقتنع بأن هذه الحرب حتماً ستلد أخرى.

ميليس زيناوي
BBC
ميليس زيناوي

مفاجأة زيناوي

لدى العودة إلى أديس أبابا ذهبت في ظهيرة اليوم التالي إلى مقر رئاسة الوزراء، وبعدما أكمل فريق التصوير ترتيباته الفنية لإجراء المقابلة مع رئيس الوزراء. تم إبلاغه بجاهزيتنا لبدء الحوار حيث وقفت لاستقباله. كانت المفاجأة أن ميليس زيناوي الذي حضر إلينا كان هو نفسه ذلك الرجل الذي التقيته في الجبهة، لكنه الآن حليق الوجه محتفظ بلحية صغيرة مشذبة، جيد الهندام وهادئ لا يبدو عليه أي نوع من التوتر أو الإرهاق.

تحدث زيناوي بمرارة شديدة عما أسماه بـ "خيانة" رفيق دربه السابق الرئيس الإريتري أسياس أفورقي ونكثه بما تعهد به له ولإثيوبيا ، قال "لقد سدد لنا طعنة غادرة من الظهر" ما دفعني إلى سؤاله عن "البعد الشخصي" في العداء مع رفيق الأمس ، فنفى بشدة وجود أي دوافع شخصية للحرب التي يخوضها ضد إريتريا، غير أنه كان من الواضح أن المجهول من أسباب هذه الحرب أكثر من المعلوم عنها.

مابعد الحرب

بعد إحكام جبهة تحرير تيغراي سيطرتها على مقاليد الحكم في البلاد بقبضة من حديد بدا أن القوى الغربية باتت مطمئنة إلى استقرار الوضع في إثيوبيا ولكن دون أن تلقي بالاً للتفاعل المتوالي بين قوميات إثيوبيا بحكم خلفيات التاريخ الاجتماعي وتبدلات الثقافة السياسية في بلد خارج من حروب ودورات عنف متعددة الأسباب بين قومياته في الداخل الذي يضم نحو ثمانين قومية إضافة إلى الجار الإريتري.

استولت القوات الأثيوبية على عاصمة تيغراي ميكيلي في الاسبوع الماضي
Reuters
استولت القوات الأثيوبية على عاصمة تيغراي ميكيلي في الاسبوع الماضي

سطوة القمع الذي مارسته جبهة تحرير تيغراي اضطر الكثيرين من قوميَتي الأرومو والأمهرة الإثيوبيين وغيرهم إلى الهرب "لاجئين" نحو الغرب ، بل وإلى مناطق مختلفة في العالم كله وهناك تعلموا الكثير؛ العديد من هؤلاء أصبحوا أكاديميين ورجال أو سيدات أعمال يمتلكون الكثير من العلم والخبرة والمال أو يُسر الحال على الأقل وكان لا بد أن يكون لهم رأي وتأثير على مستقبل الأوضاع في بلادهم.

صحيح أن زيناوي رسم خارطة طريق للتنمية في بلاده التي شهدت في عهده تحولات مهمة على أكثر من صعيد ، لكنه كان من الواضح أن ذلك لن يدوم بدون شراكة حقيقية في السلطة والثروة مع بقية القوميات والعرقيات.

في لقاءات متعددة أجريتها معه سألته في أحدها، هل الجوع والبحث عن حياة أفضل هما سبب الهجرة اللافتة لملايين الإثيوبيين من الأمهرة والأرومو وغيرهم؟ فقال :" نحن لم ولن نطلب من أحد أن يغادر، ولكن من حق أي إثيوبي أن يستخرج جوازاً ويسافر إلى حيث يريد" ، لكن زيناوي أقر في النهاية بحالة الانقسام المجتمعي وبخطورتها على مستقبل البلاد مؤكداً أنه "لا محالة من البدء باستعادة الثقة بيننا وبين بقية إخوتنا من القوميات الأخرى كالأمهرة والأرومو، وإعادة استقرار بلدنا، لقد شجعناهم بالفعل على العودة من الخارج والاستثمار في بلدنا .

خلص قادة إقليم "تيغراي" الذين تغلبوا في الصراع على بقية القوميات في تلك الفترة إلى قناعة بأن إثيوبيا الفقيرة أرض كبرى يستحيل على تيغراي وحدها التحكم بها بالبندقية، لكن هذا الإدراك جاء متأخرا بعض الشيء وأتى بعد أن تعمقت الجراح بين تيغراي والحليف الأريتري السابق في الشمال عقب حرب حدودية ضروس بينهما، ومع الأرومو والأمهرة وغيرهم في الداخل الإثيوبي حيث قُتل الآلاف، وسطرت عشرات القصص الكبرى عن عائلات لم تجد أمامها ملاذاً من الخوف سوى المنفى في كل الاتجاهات.

خلال مرض زيناوي وتلقيه العلاج لعدة أشهر وعقب وفاته في 20 أغسطس (آب) 2012 عاد إلى إثيوبيا آلاف من الإثوبيين المنفيين، وفي هذه الأثناء تولى هايلي مريام ديسالين رئاسة الوزراء خلفاً لزيناوي، غير أن الرجل الذي لا ينتمي إلى قومية الأمهرة أو الأورومو ولا إلى تيغراي وجاء كأول حاكم من طائفة البروتستانت لم يستطع الإمساك جيداً بزمام الأمور بسبب استمرار هيمنة قادة تيغراي على مفاصل السلطة ومراكز صنع القرار.

وهنا بدأت الضغوط تشتد أكثر فأكثر من الداخل والخارج، داعية إلى مرحلة جديدة من التغيير.

وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود من سيطرة تيغراي على زمام الأمور جرت انتخابات عامة أسفرت عن مجيء الضابط السابق المغمور أبي أحمد وهو الأرومي المدعوم من الأمهرة القومية الأكبر التالية.

جاء إلى السلطة منذ أربعة أعوام متعهداً بالبناء على ما تركه زيناوي، ولكنه أخذ تدريجياً وبسرعةٍ أيضاً في انتهاج ما يبدو في نظر البعض أنها سياسات "عرقية ثأرية" ضد قومية تيغراي من خلال حل تحالف الجبهة الديمقراطية لشعوب اثيوبيا الذي كانت تسيطر عليه جبهة تيغراي وأسس أبي أحمد بدلاً عنه ما سمي بـ "حزب الازدهار" منهياً بذلك هوية إثيوبيا كدولة متعددة القوميات.

رئيس الحكومة الأثيوبية أبيي أحمد
EPA
رئيس الحكومة الأثيوبية أبيي أحمد

كل ذلك أثار في تيغراي تحديداً أسئلة ملحة ومتناقضة كثير ، كيف فاز أبي أحمد الضابط الصغير في جيش زيناوي بهذه السرعة برئاسة الوزراء؟ ولماذا لم يظهر في عهد زيناوي مشروع سد النهضة الضخم الشاغل لبال العالم رغم أنه كان أحد أهم بنات أفكاره وإنجازاته؟

الهرولة إلى إريتريا

سارع أبي أحمد إلى عقد اتفاق سلام مع رئيس إريتريا العدو اللدود لجبهة تحرير تيغراي. رحبت الجبهة بهذا الاتفاق لكن هواجسها لم تتبدد حيال "اندفاع" أبي أحمد نحو اريتريا، في وقت لا تزال الجبهة الداخلية لاثيوبيا تتصدع بما في ذلك قومية الأرومو التي ينتمي إليها أحمد.

أخذ الكثير من قادة تيغراي يعودون من أديس أبابا إلى مناطقهم في تيغراي استعداداً لوقت قد يجدون فيه أنفسهم بين مطرقة العدو الإريتري شمالاً وسندان الصراع العرقي مع الارومو والأمهرة جنوباً.

تفاقم النزاع

ولم تمر سوى بضع سنوات حتى اندلع النزاع المتوقع في شمال إثيوبيا لأسباب كان يمكن احتواؤها لو لم تكن هوة النزاع بين تيغراي وأبي أحمد قد اتسعت، نتيجة تباعد وتصلب مواقف الطرفين.

عمدت الجبهة إلى إجراء انتخابات عامة في الإقليم متحدية بذلك تعليمات الحكومة المركزية بتأجيلها إلى ما بعد انتهاء جائحة (كورونا) وكان رفض الجبهة لتلك التعليمات بمبرر أن التأجيل يهدف إلى إطالة أمد الفترة الانتقالية برئاسة أبي أحمد.

ومن جانبه فقد اندفع أبي أحمد إلى المواجهة العسكرية، موصداً الأبواب أمام كل الوساطات الإفريقية والدعوات الدولية لإنهاء الحرب والعودة إلى الحوار والتفاوض.