إيلاف من بيروت: بغضبٍ متأجج لم تطفئه السنين، وجهت أم علي نداءً للرئيس اللبناني، جوزاف عون، بأن يلتزم بتعهده حين كان قائدًا للجيش بعدم التساهل في قضية مَن قتل ابنها ورفاقه على الحدود اللبنانية السورية عام 2014، فلماذا تستعيد الأم الثكلى اليوم وعد رئيس لبنان؟

أم علي بزال، هي والدة العنصر في قوى الأمن الداخلي علي، الذي أعدمته جبهة النصرة في ديسمبر من العام 2014 بعدما اختطفته مع 17 عسكريًا آخرين من مراكز خدمتهم في عرسال. واليوم أصبح زعيم جبهة النصرة "أبو محمد الجولاني" يُعرف باسمه الحقيقي أحمد الشرع ويتولى قيادة الإدارة الجديدة في سوريا بعد سقوط الأسد.

للمفارقة، فإن جوزاف عون الذي انتُخب قبل أيام رئيسًا للبنان، كان قد تولى جبهة بلدة "عرسال" بعد أن شنت جبهة النصرة هجومها على القوات الأمنية اللبنانية في جرود هذه البلدة المحاذية للحدود السورية عام 2014، فكيف سيتعامل الرئيس اللبناني مع أحمد الشرع؟

وبالنسبة لأم علي، فإن "أحمد الشرع أو كما نعرفه أبو محمد الجولاني، يتحمل مسؤولية قتل وذبح أبنائنا العسكريين. هو إرهابي وقاطع رؤوس، ولو استحم بماء زمزم سيبقى إرهابيًا. والله لو صادفته يومًا، فالجميع يعلم ما سأفعله به".

يذكر أنه في عام 2014، شهدت بلدة عرسال واحدة من أكثر المحطات إيلاماً في تاريخ لبنان الحديث، عندما اختطفت جبهة النصرة، بقيادة "أبو محمد الجولاني"، مجموعة من العسكريين اللبنانيين أثناء تأديتهم واجبهم الوطني. لم تكن تلك الحادثة مجرد واقعة عابرة، بل شكلت فصلاً دامياً لاتزال آثاره عالقة في وجدان اللبنانيين، وخاصة عائلات الضحايا.
خلال فترة احتجازهم، عاش المختطفون وعائلاتهم كابوساً امتد لشهور طويلة. أُعدم اثنان منهم، في جريمة هزت الرأي العام اللبناني، فيما أُفرج عن الآخرين بعد مفاوضات معقدة وشاقة.

اليوم، ومع صعود أحمد الشرع إلى قيادة "الإدارة السورية المؤقتة"، تتجدد الأسئلة الصعبة: كيف يمكن لعائلات العسكريين الذين اختطف وأعدم أبناؤهم على يد الشرع وجماعته، أن يتقبلوا هذا الواقع؟ وكيف سيتعامل رئيس الجمهورية الحالي، مع شخص تلطخت يداه بدماء العسكريين اللبنانيين؟

اليوم الأسود
في ذلك اليوم المشؤوم الذي خطف فيه علي، تحدث مع والدته قبل مغادرته إلى مركز عمله، قائلاً لها "أشعر أن شيئاً سيحدث في عرسال. انتبهي على نفسك".

حاولت إقناعه بعدم الذهاب، لكنه طمأنها قائلاً "لا تخافي"، ولكن بمجرد وصوله إلى مركز قوى الأمن، حاصره عناصر جبهة النصرة، اتصل بوالدته ليخبرها بما حدث، وحين طلبت منه الهرب، أجابها "لا أستطيع".
بعد أربعة أشهر من انقطاع أخبار علي، تمكنت والدته من التواصل معه عبر الهاتف بوساطة شقيق زوجته، الذي كان عنصرا في جبهة النصرة، وهو الآن متهم بالتورط في عملية إعدامه مع شقيقه الآخر، وكلاهما من أبناء عرسال.
تقول أم علي "قال لي: إذا كان لي عمر، سأعود. وأوصاني بالاعتناء بابنته الصغيرة مرام، التي لم تتجاوز الثلاث سنوات آنذاك".

جرح مفتوح
في عام 2017، بعد انتهاء معركة جرود عرسال، توجهت أم علي إلى المكان الذي احتجز فيه علي قبل إعدامه، باحثة عن أي شيء يربطها بابنها، وتقول "كل يوم يزداد الجرح داخلي. ابني قتل ظلماً، ولا أحد من السلطة يهتم بما حدث."

تواصل الوالدة المفجوعة بخسارة ابنها، معركتها لتأمين علاج ابنته مرام، قائلة "أبذل كل جهدي لتأمين علاجها، لكن قوى الأمن الداخلي لا تتعاون معي. حاولت كثيراً لقاء مدير عام قوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، لكن لم أتمكن من ذلك".

وتؤكد بحزم "على السلطة اللبنانية أن تولي اهتماماً خاصاً لأبناء الشهداء".
أما زهراء، شقيقة علي، فتتحدث عن أخيها قائلة "كنت أنشر صوره التي تظهر قوته وشهامته، وضحكته التي تعكس نقاء روحه. كنت أريد أن أظهر الجانب المشرق من حياته..".

"لكن بعد استلام الجولاني الحكم في سوريا، قررت أن أُظهر الوجه الآخر، جانب المعاناة والعذاب الذي عاشه شقيقي. أصبحت أنشر صوره التي تحكي قصص ألمه، رغم أني أعتبرها قصصاً لبطل عاش بشموخ وفخر وكرامة".

لبّ المشكلة
تكمن المشكلة الكبرى في لبنان كما يؤكد الكاتب الإعلامي، حسين خريس، "في توريط حزب الله للجيش اللبناني في معارك لا علاقة له بها، مثلما حدث في جرود عرسال شرق البلاد".

ويوضح أن "تدخل حزب الله في هذه المعارك، نتيجة ارتباطه بمحور إيران، دفع الجيش اللبناني إلى التدخل مكرهاً لحماية حدوده".
ويشير خريس إلى أن الجيش اللبناني "يلتزم بقرارات السلطة السياسية التي منحت عبر بياناتها الوزارية حزب الله شرعية حمل السلاح، بينما لم تمنح هذه الشرعية لأي طرف لبناني آخر".

ويشرح كيف وصلت جبهة النصرة وتنظيم داعش إلى جرود عرسال، مشيراً إلى أن ذلك كان نتيجة مباشرة للعمليات العسكرية التي شنها حزب الله من منطقة الهرمل وريف القصير ضد الفصائل المسلحة.

ويقول "بعد دخول حزب الله إلى ريف القصير وشنّه معارك مع عناصر جبهة النصرة وداعش، اضطرت هذه العناصر إلى التراجع تدريجياً وصولاً إلى منطقة القلمون. ومع استمرار حزب الله في ملاحقتهم، انتهى بهم الأمر في جرود عرسال الواقعة ضمن السلسلة الشرقية المتداخلة بين لبنان وسوريا".

ويشدد أنه "رغم إعلان حزب الله أن تدخله يهدف إلى منع دخول هذه العناصر إلى لبنان، إلا أن الواقع الميداني أظهر أن تحركات الحزب ساهمت بشكل مباشر في وصولهم إلى جرود عرسال".

وفيما يتعلق بتصريحات بعض عناصر داعش حينها حول نيتهم دخول لبنان، يشير خريس إلى أن "هذه التصريحات قد تكون نابعة من أحلام داعشية بالتوسع، لكن جبهة النصرة لم تكن لديها نية مماثلة لدخول لبنان. والدليل على ذلك هو أنه بعد تدخل حزب الله في القصير، بدأت جبهة النصرة بتنفيذ تفجيرات داخل لبنان كردة فعل".

ويؤكد أن مطالب جبهة النصرة أثناء وجودها في جرود عرسال، خاصة خلال أزمة العسكريين المخطوفين، كانت واضحة وموجهة ضد حزب الله.
ويقول "جبهة النصرة طالبت باستقلال الدولة اللبنانية عن سيطرة حزب الله، وإلغاء شرعية الحزب كمقاومة، وإغلاق الحدود بين لبنان وسوريا لمنع دخول عناصر حزب الله إلى سوريا. ورغم ذلك، بقيت الحدود مشرعة لعناصر الحزب".

عندما اختطفت جبهة النصرة وتنظيم داعش، العسكريين اللبنانيين، طالبا كما يقول خريس بالإفراج عن سجناء إسلاميين من سجن رومية مقابل إطلاق سراح العسكريين.

ويوضح "النصرة وداعش قدمتا مطالب واضحة، إما إطلاق سجين أو اثنين من الإسلاميين مقابل كل عسكري، أو الإفراج عن جميع الإسلاميين من سجن رومية ونقلهم إلى سوريا. آنذاك، أبدى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط موافقته على التفاوض، مستنداً إلى أمثلة من دول كبرى تفاوضت مع ميليشيات لإنقاذ رهائنها".

لكن "حزب الله والتيار الوطني الحر رفضا التفاوض بشدة، بحجة أنه لا يمكن التفاوض مع إرهابيين. ونتيجة لهذا التعنت، أقدم تنظيم داعش على إعدام جميع العسكريين الذين كان يحتجزهم، فيما قتلت جبهة النصرة العسكريين الشيعيين علي البزال ومحمد حمية".

أما المفارقة الكبرى فتكمن كما يقول خريس في أن "حزب الله الذي منع الدولة اللبنانية من التفاوض للحفاظ على أرواح العسكريين، عاد وتفاوض بنفسه مع جبهة النصرة في إدلب لإطلاق سراح عناصره، ووافق على مبادلة أسرى. كذلك فاوض تنظيم داعش وضمن خروج مقاتليه بحافلات دون التعرض للقصف".

ويضيف "برر حزب الله منعه للدولة اللبنانية من إنقاذ العسكريين برفض التفاوض مع إرهابيين، بينما فاوض بنفسه لحماية مقاتليه، بأنه مجموعة مسلحة تتفاوض مع مجموعة مسلحة أخرى".

تورّط لا يلغي الروابط
يؤكد خريس الذي كان أول الإعلاميين الذين التقوا بالجولاني حينها وأبو مالك التلي، وأيضاً كان أول من كشف صورة الجولاني، تورط الأخير بمقتل العسكريين اللبنانيين.

ويقول "لا يمكنني عدم إدانة جبهة النصرة لارتكابها ذلك، لكن في ذات الوقت، لا يمكن إغفال المسؤولية الأساسية لحزب الله، الذي جرّ الجيش اللبناني إلى معارك لا ناقة له فيها ولا جمل".

ويشرح أن "الأمير أبو مالك التلي، القيادي في جبهة النصرة والمسؤول عن عمليات خطف العسكريين اللبنانيين خلال تلك الفترة، كان يعمل تحت إشراف الجولاني، وبالتالي قرارات الخطف والقتل كانت تتخذ بالتشاور بينهما".