محمد السماك

في الذكرى التاسعة للعملية الإرهابية التي استهدفت مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأميركية في واشنطن ترتفع علامة استفهام كبيرة حول الدروس التي خرج منها كل من الولايات المتحدة من جهة، والعالم الإسلامي من جهة ثانية.
بالنسبة للولايات المتحدة، يبدو إنها حققت أربع خسارات فادحة على أربع جبهات. الجبهة الأولى هي العراق. فقد أدت الحرب على العراق التي أطلقت شرارتها عملية 9-11-2001، إلى مقتل 4400 جندي أميركي، والى إصابة 32 ألف جندي آخر بجراح، وكلفت الحرب الخزانة الأميركية 750 مليار دولار. كما أدت الحرب الى مقتل حوالي المليون عراقي والى تهجير أكثر من خمسة ملايين آخرين والى تمزيق وحدة العراق وتسهيل الهيمنة الإيرانية عليه.
شنت الولايات المتحدة الحرب على العراق رغم معارضة الأمم المتحدة، ورغم ثبوت عدم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. فخسرت إدارة الرئيس بوش احترام المجتمع العالمي. بل إنها خسرت قبل ذلك احترام المجتمع الأميركي نفسه. وقد تكرس ذلك في فوز الرئيس باراك أوباما وهو أول أميركي من أصل أفريقي، بالرئاسة على حساب مرشح الحزب الجمهوري الذي يدعمه الرئيس بوش وإدارته.
الجبهة الثانية هي أفغانستان. فرغم مرور تسع سنوات على الاجتياح العسكري، فان الولايات المتحدة لم تقضِ على حركة الطالبان، بل ان الحركة ازدادت قوة باعتراف القيادة العسكرية الأميركية وقيادة حلف شمال الأطلسي معاً. وبدلاً من اقتلاعها كما كان هدف الاجتياح، فان الإدارة الأميركية تتفاوض معها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ماء الوجه الأميركي.
كذلك لم تتمكن الولايات المتحدة بكل قواها العسكرية، وبكل أجهزة مخابراتها أن تعتقل ابن لادن الذي اعترف بأنه وراء عملية سبتمبر 2001. وهي حتى الآن لم تعثر له على أثر. وبالنتيجة فان الولايات المتحدة لم تعد تتطلع الى انتصار في أفغانستان. ولكنها تتطلع الى انسحاب غير مذل كما فعلت في العراق.
الجبهة الثالثة هي الولايات المتحدة ذاتها. ففي عهد الرئيس السابق جورج بوش وضعت قوانين جديدة قامت على أساس اعتبار الأولوية للأمن على الحقوق المدنية. فخسر المجتمع الأميركي كثيراً من حريته وأصبح كل مواطن يخضع للمراقبة من حيث لا يدري في الشوارع والساحات العامة والمباني الحكومية وحتى المسارح والملاهي، ويخضع للتصوير الفوتوغرافي السري أكثر من عشر مرات في اليوم الواحد.
ولم يتوقف هذا التراجع عن مبادئ الحرية التي قامت عليها الولايات المتحدة، بل تعداه الى الترويج لثقافة الكراهية بدلاً من ثقافة احترام الاختلاف والتنوع. ولعل آخر مؤشر على ذلك، معارضة بناء مسجد ومركز ثقافي إسلامي في مانهاتن نيويورك في مكان لا يبعد كثيراً عن مركز التجارة العالمي الذي استهدفته العملية الإرهابية قبل تسع سنوات. كما تؤشر إليه أيضاً دعوة إحدى الكنائس الإنجيلية في فلوريدا quot;كنيسة دوفquot; إلى حرق القرآن الكريم لمناسبة ذكرى تلك العملية التي أدانها العالم الإسلامي في حينه، ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم.
أما الجبهة الرابعة فهي الحرب على الإرهاب التي أعلنها الرئيس جورج بوش. ولعل أسوأ وأخطر نتيجة لتلك الحرب هو خسارة الولايات المتحدة لها. وكان ذلك أمراً حتمياً بحكم المنطق الذي اعتمدته بتوجيه من المحافظين الجدد والحركة الصهيونية المسيحانية معاً.
فقد ربطت إدارة الرئيس بوش الإرهاب بالإسلام. فبدت الحرب على الإرهاب وكأنها حرب على الإسلام (احتلال كل من أفغانستان والعراق والتهديد بضرب إيران). وكشفت زلة لسان الرئيس بوش عن حقيقة هذا الأمر عندما استخدم عبارة quot;الحرب الصليبية الجديدةquot; في إشارته إلى الحرب على العراق.
لقد فرض منطق خسارة هذه الحرب منطقاً آخر مارسته الإدارة الأميركية السابقة حتى الثمالة، وهو التعاون مع إسرائيل من جهة أولى على إنها شريك في الحرب على الإرهاب ومن جهة ثانية التعامل مع الدول العربية (وحتى الإسلامية) وكأنها تقع في مرمى أهداف هذه الحرب.
لم يكن أحد في العالم، وفي العالمين العربي والإسلامي تحديداً، يريد أن يرى الإرهاب في حالة إستقواء واتساع، ذلك لأنه عدو للإنسانية كلها. ولكن أحداً لم يكن يريد للولايات المتحدة أن تنتصر في هذه الحرب وفق مواصفاتها لها، وعلى ضوء أهدافها منها. وقد زاد ذلك من الاستياء العالمي من الإدارة الأميركية السابقة، كما عمّق من الاستياء الوطني الأميركي من هذه الإدارة حتى سجلت شعبية الرئيس جورج بوش أدنى مستوى لأي رئيس أميركي في التاريخ ( أقل من 30 بالمائة).
أما العالم الإسلامي فلعل أهم خسارة مني بها هي عدم نجاحه في التصدي لحملة تشويه الإسلام التي أطلقتها عملية 11 أيلول 2001. فمنذ تسع سنوات والحملة تتضخم مثل كرة الثلج. صحيح أن القمة الإسلامية التي عُقدت في ماليزيا أقرت توصية بتكليف لجنة من الحكماء وضع برنامج عمل لبلورة خطاب إسلامي جديد للعالم، وصحيح ان هذه اللجنة اجتمعت في إسلام آباد ووضعت التصور المقترح لهذا البرنامج، إلا أن ذلك بقي مجرد حبر على ورق. لقد كان من المفترض أن تنطلق بعثات إسلامية إلى دول العالم تضم خبراء ومثقفين تربويين وإعلاميين محترفين ودعاة منفتحين تزور الجامعات والكنائس والأندية الثقافية والمؤسسات الإعلامية والبرلمانات والجمعيات الأهلية. الا ان شيئاً من ذلك لم يحدث. فأدى الغياب الإسلامي، مع التوظيف الصهيوني للأعمال الإرهابية التي ارتكبت باسم الإسلام، إلى انفجار مشاعر الكراهية ضد المسلمين والمتمثلة بما يُعرف بالاسلاموفوبيا.
طرأ أمران إيجابيان على هذه المعادلة. تمثّل الأمر الأول بانتخاب الرئيس باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة. وبدا البعد الايجابي لانتخابه من خلال ما تضمنه خطاب القسم بالنسبة للانفتاح على العالم الإسلامي، ثم من خلال الخطاب الشهير الذي ألقاه في جامعة القاهرة. وهو ما جدّد التأكيد عليه في الأسبوع الماضي عندما جدد الإعلان بأن الولايات المتحدة لن تكون أبداً في حالة حرب مع الإسلام.
وتمثّل الأمر الثاني بمبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين أهل الأديان والثقافات المختلفة في العالم، وبدا البعد الايجابي لمبادرته اولاً من خلال لقاء مكة المكرمة الذي أجمع فيه العلماء المسلمون من كل المذاهب ومن كل الأقطار على ضرورة الحوار وأهميته، وثانياً من خلال مؤتمر مدريد الذي جمع بين ممثلين عن كل الأديان والثقافات تحت مظلة هذه المبادرة، وثالثاً من خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وتبنيها للمبادرة.
ومن خلال هذين الأمرين تلوح فرصة جديدة تمكن العالم الإسلامي من الانتقال من موقع المتهم (بفتح الهاء) إلى موقع الشريك الفعلي في العمل على اجتثاث الإرهاب وذلك من خلال اعتماد مبدأ احترام الاختلافات والتعاون بين المختلفين.
لقد دفع العالم الإسلامي ثمناً باهظاً للعمليات الإرهابية التي ارتكبت باسمه قبل 11 أيلول 2001 وبعده، وزاد من فداحة هذا الثمن الاتهامات الظالمة التي وجهت إلى الإسلام والتي تعمّدت تشويه صورته.
ويشير الأمران إلى تغيير في المقاربة الأميركية لموضوع الإرهاب، حتى إن الرئيس أوباما أسقط شعار الحرب على الإرهاب من أساسه، كما يشيران إلى انتقال الموقف الإسلامي من المراقبة الحذرة الى المبادرة الشجاعة.
يكرس النتائج العملية لهذا التغيير بوجهيه، نجاح (أو فشل) مشروع بناء المسجد والمركز الثقافي الإسلامي في نيويورك. فإذا نجح المتطرفون في منعه، فان معنى ذلك، توجيه ضرب جديدة لقيم الحرية التي قامت عليها الولايات المتحدة ؛ أما اذا سمح ببناء المسجد فانه يعني نجاح التسامح الديني الذي كاد الإرهاب والرد على الإرهاب بإرهاب مثله يقضي عليه.. مما يؤسس لعودة الولايات المتحدة إلى ذاتها ويمكّن العالم الإسلامي من استعادة صورته غير المشوهة.