عصام نعمان

كان معمر القذافي كائناً، ولا اقول انساناً، فريداً مذّ انبثق من عتمة المجهول الى اضواء الشهرة في الفاتح من سبتمبر 1969، وباشر مشاغلة الدنيا والناس طيلة 42 عاماً قبل ان يسقط في مسقط رأسه في 20 اكتوبر 2011.
كائن عجيب غريب، طريف مخيف، خفيف ثقيل، عاقل مجنون، مسلّي منفّر، ثائر حائر، مجدد محافظ، عروبي افريقاني، إسلامي مؤمن مسلم غير اسلامي، ضد اسرائيل مع اسراطين، ضد اميركا مع اميركا، رئيس مزمن قائد بلا منصب، انسان خارق حيوان ناطق.
انه جامع كل هذه النعوت والاوصاف والإزدواجيات والتناقضات والفضائل والرذائل. هو بعضها حيناً ونقيضها حيناً آخر وكلها مجتمعة في زمان ومكان. لعله الظاهرة الاكثر فرادة وإثارة طيلة ثلاثة عقود من القرن العشرين وعقدٍ من القرن الحادي والعشرين. انه عقوبة العالم لنفسه.
عندما تعرّفت اليه قبل 39 عاماً لم تكن تباشير فرادته وغرابته قد انتشرت. كنتُ وضعتُ في العام 1972 'مشروعَ دستور دولة الاتحاد العربي' ونشرته في صحيفة محلية. أُعجب به المرحوم كمال جنبلاط ودعاني، مع قياديين لبنانيين آخرين، الى تشكيل وفد يطوف به على بعض الرؤساء العرب ممن أظهروا تقبّلاً لفكرة الوحدة او الاتحاد العربيين. وقد وقع الإختيار على القذافي وكان آنذاك ناصرياً متحمساً ليكون اول من يعرض عليه المشروع اواخرَ العام 1972.
تناهت الى القذافي رغبة جنبلاط، فدعاه الى زيارة ليبيا التي لم يكن قد اطلق عليها بعد لقب 'الجماهيرية'. الى جنبلاط، كان الوفد مؤلفاً من رئيس اركان الجيش السوري الاسبق الضابط اللبناني الاصل اللواء شوكت شقير، عباس خلف، محسن دلول، خليل احمد خليل وكاتب هذه السطور.
في الإجتماع مع العقيد كان الكلام، في معظمه، لجنبلاط الذي ركّز على ضرورة قيام اتحاد بين دول الطوق لمواجهة تعاظم عدوانية اسرائيل بعد كسبها حرب 1967، ثم طلب اليّ شرح احكام المشروع. أصغى القذافي بصبرٍ وأبدى موافقة مقتضبة عليه، ثم استرسل بعدها في توصيف سلبي للوضع العربي وإطلاق طائفة من التعليقات والتشنيعات بحق شخصيات سياسية واحزاب وتنظيمات ومذاهب 'صليبية'، ليختم مقترحاً على جنبلاط القيام بجولة تشمل ليبيا كلها.
سارع جنبلاط الى الإعتذار قائلاً : 'إن رفيقنا عباس ميشال خلف (وكرر اسم 'ميشال' مرتين) ونحن ايضاً نريد العودة الى البلاد قبل حلول عيد الميلاد'. فقد خشي جنبلاط ان يتفوّه القذافي بواحدة من تشنيعاته ضد المسيحية و'الصليبية' ما يُحرج عباس خلف المسيحي. وكان احد الأصدقاء قد ابلغ جنبلاط قول القذافي لجورج حبش وجورج حاوي وإنعام رعد وعبد الله سعاده عندما إلتقاهم : 'إنكم مزوَّرون ويجب ان تصححوا وضعكم'. لماذا ؟ 'لأنكم جميعاً مسيحيون، وليس هناك من عرب غير مسلمين، ولا وجود لمسيحيين في العرب، ولا وجود لمسلمين خارج العرب' !
المرة الثانية والاخيرة التي قابلتُ فيها القذافي، بل جابهته، كانت في العام 1980. فقد كان العقيد قد انجز وضع 'النظرية العالمية الثالثة' ونشرها في 'الكتاب الاخضر' الشهير، ودعا ما لا يقل عن 200 من رؤساء الجامعات واساتذتها والمفكرين والكتّاب والسياسيين والناشطين من شتى انحاء العالم لمناقشة نظريته الفريدة في مدرج جامعة بنغازي. وقد تلقيتُ دعوةً للمشاركة في ندوة المناقشة بصفتي استاذاً محاضراً، آنذاك، في كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية.
كان جمعاً مُذهلاً ذلك الذي وجدتُ نفسي فيه. فقد قدّم عشرات المشاركين اسهامات ومداخلات على مدى اربعة ايام، جاءت في غالبيتها مقرِّظة وممتدحة للكتاب الاخضر بما هو انجاز فكري- سياسي غير مسبوق ! وكان نظام الندوة يقضي بأن يدلي المشاركون بمداخلاتهم في جلستين، قبل الظهر وبعده، في حضور العقيد الذي كان يكتفي بتدوين ملاحظاته ولا يتدخل او يعلّق على ما كان يقال إلاّ مساءً في آخر الوقت المحدد للجلسة. لكن ما ان جاء دوري، ظُهرَ اليوم الثالث، لأدلي بمداخلة نقدية صارمة لمقولته 'من تحزّب خان' حتى خرق القذافي نظام الجلسات بإبلاغه رئاسة الندوة رغبته في الرد عليّ مباشرةً.
توجّه القذافي الى الحاضرين قائلاً : 'اعتقد ان الاستاذ اللبناني لم يفهمني جيدا '... واكمل تعليقه محاولاً تفنيد ما ادليت به من نقد لمقولاته الركيكة. ما ان انهى كلامه حتى سارعتُ الى المطالبة بحق الرد. نظر رئيس الندوة الى القذافي مستطلعاً الجواب، فأشار اليه بالقبول. توّجهتُ الى الحاضرين قائلاً : 'أخشى ألاّ يكون الاخ العقيد قد سمعني جيدا '... وتابعت مداخلتي مفّنداً اقواله وسط همهمات الإرتياح من الحاضرين لكوني المتحدث الاول الذي 'تجّرأ' على نقده. رد عليّ القذافي بذرائع غير منطقية، فطلبتُ الكلام مجدداً وفنّدتها بقوة وصراحة. نظر رئيس الندوة الى القذافي مستطلعاً ما اذا كان يريد الردّ، فأشار بيده أن لا، فدوّت القاعة بالتصفيق. بعضهم ربما صفق للعقيد لأنه توقّف عن الكلام السخيف. بعضهم الآخر صفق لي مفسراً امتناعه عن الرد بأنه علامة 'إنتصاري' عليه، بالمنطق طبعاً، بدليل ان مشاركين كثراً تحلّقوا حولي بعد الجلسة مهنئين، وبَلَغت الحماسة بطالب لبناني في جامعة بنغازي حدَّ الهتاف قائلاً : 'أنتَ افحمت العقيد' !
سارعتُ الى تهدئة الطالب المتحمس وخاطبته قائلاً : 'أنا لم أُفحم العقيد. هو ارتأى إنهاء المناقشة تقّيداً منه بنظام الندوة' ! ثم انتحيتُ به جانباً وهمستُ : 'انت مجنون! هل تريد بهذا الكلام ان نَلْحق سويةً بالإمام السيد موسى الصدر او ان تفقد في الأقل منحتك الدراسية' ؟! كان السيد الصدر، قبل ندوة الكتاب الاخضر بسنة تقريباً، قد إختفى بل أُخفي مع رفيقيه خلال زيارة لليبيا بدعوة من القذافي.
من 1980 ولغاية 2011 عانت ليبيا وشعبها الصابر كثيراً من غرابة أطوار القذافي وغرائبه وطرائفه وتطرفه ووحشيته غير المسبوقة في عالم العرب والعجم. واذ يطوي التاريخ وجهه وصفحة 'لانظامه' (الذي قال إن لا منصب له فيه ليتخلى عنه!) تقف ليبيا، شعباً وجماعات وقيادات، على مفترق طرق رهيب. هل تراها تطوي صفحة الماضي بسقوط المستبد واستبداده المديد لتنتقل الى حال من الفوضى والحرية القلقة ؟
ثمة تحديات ثلاثة تواجه ليبيا اليوم : الدمـار البشري والمادي الكبير نتيجةَ الحرب، وتعددية الجماعات والقيادات التي شاركت في الحرب ولكلٍ منها دور وفضل في إنهاء القذافي، والثمن الذي ستدفعه البـلاد للغرب الاطلسي، ولا سيما لاميركا وفرنسـا وبريطانيا، كـ 'بـدل اتعاب' لقاء 'الخدمات' التي قدمتها
لـِ 'الصديق' في ساعة الضيق.
مواجهة التحديات تبدأ بتوحيد الإرادة الوطنية من خلال التوافق على برنامج للوحدة والبناء والديمقراطية تلتزمه غالبية الجماعات والفصائل والقوى المقاتلة والمناضلة بغية تحقيق هدفين رئيسيين : بناء دولة الديمقراطية والعدالة والتنمية، وتعبئة القواعد الشعبية في وجه مطامع دول الغرب الاطلسي بغية المحافظة على ثروة البلاد النفطية وتفادي دفع ثمن باهظ لها لقاء مساعدتها الملغومة.
التحديات كبيرة ومثلها الجهود المطلوبة لمواجهتها.