سليمان تقي الدين

شغلت قضية فلسطين العرب على مدى ستة عقود سال فيها دم كثر وحبر كثير . حكمت فلسطين التاريخ العربي خلال نصف قرن، واكتسبت قداسة لا يمكن تجاهلها في وجدان الشعوب حتى صارت خارج الأسئلة العقلانية . فلسطين تقفل النقاش لكونها القضية الأعدل في عصرنا، ولكونها الشاهد الأبرز على مصير الأمة والاعتداء على هويتها وحقوقها . فلسطين مبتدأ الخطاب وختامه، حتى تشوهت رؤيتنا لكثير من القضايا والمهمات ووقعنا أسرى الخداع بالمعنى الوجودي والإنساني، وذهبنا بلا سؤال وراء كل من رفع راية تحرير فلسطين، كل هذا ولم تتحرر فلسطين، وبمرارة نقول إنها لن تتحرر من الطريق القديم ذاته .

لا نشكك هنا بالرومانسية العربية أو الإسلامية ولا بالنوايا ولا المقاصد، نريد في ضوء التجربة والاختبار والتضحيات الهائلة أن نلفت إلى الخلل الذي أعاق تحقيق هذا الهدف السامي، والذي نظنه يتكرر في السياسات العربية ويتكرر اليوم في الممارسة السياسية والخطاب الإسلامي . من غير الطبيعي أن تتخلى الثورات العربية عن شعار تحرير فلسطين . لا حرية ولا تحرر وطني أو تقدم اجتماعي في ظل هذا الوجود ldquo;الإسرائيليrdquo; المهيمن على سياسات العالم العربي المتحكم بمعظم المسارات والخيارات السياسية والتنموية . إذا كانت الشعوب من خلال حراكها السياسي لم تضع هذه المسألة في أولوياتها، فهذا أمر يحتاج إلى تفسير ويمكن أن يفسر .

باسم تحرير فلسطين خضعنا لنظام عربي صادر حريتنا وإرادتنا، ومعظم ثرواتنا ذهبت إلى الجيوش والأمن ومن خلالهما إلى الفساد والهدر . رضخنا لسياسات اقتصادية وثقافية واجتماعية قيل إنها ضرورات تقتضيها المواجهة القومية وتفرضها احتياجات المعركة المركزية .

باسم فلسطين تمت مصادرة القرار الفلسطيني وإلحاقه بأنظمة شهرت وصايتها على القضية القومية . باسم فلسطين دفع لبنان ثلاثة عقود من الفوضى، ومن أثقال وعبء القضية التي أوكل العرب للبنان أن يحملها بمفرده . تعرض لبنان للاحتلال فكانت قضية وطنية مشتركة مع الفلسطينيين وكذلك سوريا . انحصر الصراع الفعلي في هذه البقعة الجغرافية وبدأ يفقد زخمه مع تحرير الجنوب والخيار الفلسطيني المستقل في الداخل . لدى الشعوب العربية اليوم مشكلات وقضايا وأولويات تتصل بحرياتها وحقوقها وكرامتها الإنسانية، ولا تستطيع هذه الشعوب أصلاً أن تواجه ldquo;إسرائيلrdquo; أو تتفاعل نضالياً مع قضية الشعب الفلسطيني، لأنها بعيدة عن هذه الجغرافيا، ولا مكان لها تأتي إليه، كما حصل في سبعينات القرن الماضي، ولا يوجد إطار نضالي لاستيعابها، ومن يرفع راية فلسطين من خارج نضال الشعب الفلسطيني، لديه قضيته الخاصة، إما لأن جزءاً من أرضه محتل، وإما لأنه على تماس جغرافي مع خطر التوسعية الصهيونية .

على صعيد سوريا لا مقاومة أصلاً منذ ثلاثة عقود في الجولان، وعلى صعيد ldquo;حزب اللهrdquo; توقفت المقاومة اليومية منذ التحرير، وتحولت قدرات الحزب إلى قوة دفاعية نظامية، وانضم بذلك إلى المنظومة الرسمية لتحالفه مع سوريا وإيران، ويستمد ldquo;حزب اللهrdquo; شرعيته من هذا الوضع الدفاعي عن لبنان، ومن خطاب ldquo;المواجهة المحتملةrdquo; مع ldquo;إسرائيلrdquo; .

لكن ldquo;حزب اللهrdquo; يحتكر هذا الموقع سياسياً وتنظيمياً، ويلتزم عقيدة مذهبية حصرية، ما يجعله عاجزاً عن قيادة عمل وطني وجماهيري خارج بيئته وخارج تحالفاته . إذا كان ذلك مسألة موضوعية تتعلق بواقعه وتكوينه المذهبي، ومصادر دعمه ذات المصالح الإقليمية، فإن الحزب وحلفاءه لا يستطيعون مساءلة الآخرين عن أدوارهم . يكرر ldquo;حزب اللهrdquo; تجربة الأنظمة التي وضعت يدها على قضية فلسطين، واستثمرتها طويلاً، واختزلت الأمة والجمهور، واحتكرت إدارة المواجهة التي فشلت في معظم الأحوال . في خطاب ldquo;حزب اللهrdquo; عن فلسطين استبدال لشعار الإسلام بشعار العروبة التحريرية الوحدوية، وبالتوجه إلى عاطفة الجمهور المسلم عن المقدسات . لا ننكر أهمية ذلك، لكننا نجد قطيعة كاملة في المنظومة الفكرية بين تحرير فلسطين وتحرر الشعوب العربية من القهر والظلم والكبت والاستغلال والفقر والتبعية .

إذا كان الجمهور سلبياً مع هذه الطروحات، لأن المواجهة العسكرية إذا حصلت يدفع ثمنها دون أي احتمال لتحسين ظروف حياته الاجتماعية والإنسانية، ولأن لبنان بالذات لم يعد يحتمل هذا الخيار وأعباء هذا الخيار خاصة وحده . غير أن الأبعد من ذلك هو التوصيف السياسي لمشروع ldquo;حزب اللهrdquo; بوصفه فصيلاً عسكرياً إيرانياً، وما باتت تعنيه إيران في الوعي العربي السياسي الراهن من طرف إقليمي له مصالح وله نفوذ وطموحات، وفي أسوأ الأحوال، لأن ldquo;حزب اللهrdquo; هو طرف مذهبي وديني لا يستطيع أن يكون قيادة وطنية لبنانية .

يشكل الذين يرفعون راية فلسطين اليوم من خارج التغيير في البيئة العربية الاجتماعية والسياسية، استمراراً لنهج سابق مهما كانت له من إمكانات عسكرية . ربما كانت هذه القدرات والتضحيات التي لا نستطيع إنكارها أكبر من الماضي، لكن مردودها في جميع الأحوال ليس قادراً على استنهاض الوعي العربي، ولا احتمالات تكوين مناخ جديد عن فلسطين من خلال هذا الموقع الفئوي .