وائل مرزا
كثيراً ما تقول العرب: laquo;اندسّraquo; فلانٌ في الفراش، وحين تبحث في المعاجم تجد فعلاً أن لهذا الاستعمال أصلاً أصيلاً في اللغة العربية.
تُفكّر، من هذا المنطلق، فيما يجري في سوريا هذه الأيام، فتفهم المعنى الحقيقي لما يردده الإعلام السوري عن الشعب السوري المندسّ.
تُدركُ أن هذا الشعب البطل وجد أخيراً، وبعد عقودٍ من الصبر والمعاناة والتعب، فِراشهُ الأصلي الذي كان يبحث عنه. فراش الكرامة والحرية والوحدة الوطنية. وأنه بدأ يندسُّ في هذا الفراش الممتدّ على مساحة الوطن بأسره.
يشرح الله من عليائه صدر الشعب السوري اليوم، فيرمي عن ظهره وزر أثقال أنقضته من القهر والذلّ والهوان، ويندسُّ في ذلك الفراش، ملتحفاً بكل ما في طاقة الإنسان على هذه الأرض من معاني العزّة والشجاعة والبطولة والتضحية والفداء.
يشعر بالدفء بعد بردٍ قارسٍ طويل، فتنفجر عبقريته بألف طريقة وطريقة لتُظهر للعالم نموذجاً فريداً عما يمكن أن تفعله الشعوب حين يشتعل شوقها إلى الحرية. كلمةٌ واضحة هي مناطُ التكريم الإنساني الفريد على هذه الأرض، ولا تحتاج إلى تعريفٍ تطلبه أبواقٌ تافهة لا تستحق أن تُذكر بأكثر من هاتين الكلمتين.
يندسُّ الشعب السوري في فراش الكرامة والحرية، فتظهر فيه طاقةٌ أسطورية على مواجهة الرصاص والمدافع والدبابات بصدورٍ عارية، وبشعارٍ واحدٍ لا يتغير يؤكد على سلمية ثورته.
يمضي اليوم وراء اليوم، والأسبوع خلفه الأسبوع، وإرادة هذا الشعب لا تتزعزع.
يتساقط الشهداء مثل ورود ربيعٍ قطفتها يدٌ آثمة. تُعتقل آلافٌ في إثرها آلاف. تُحاصر مدنٌ ومناطق بكل ما فيها ومن فيها. تُستخدم كل أنواع الإرهاب والترويع والتعذيب والإهانة لكسر النفوس قبل الأجساد، فلا تجد إلا الإصرار على متابعة المسيرة، ولا تسمع إلا قصص الصمود والتحدي والتصدي. كلماتٌ حسب الناس أنها صارت محض شعارات تلوكها الألسن زوراً وبُهتاناً، وإذا بالشعب السوري يبث فيها روحاً تنبض بالحياة.
تخجل مما يمكن أن تقوله كلماتك، حين تقرأ قصة (ليلة صمود بابا عمرو) كما كتبها مَن عاشها، فتقرر أن تشارك القارئ الكريم بجزءٍ منها يُعبّر عن كل ما تريد أن تقول وأكثر.
يتحدث كاتبها في البداية عن طبيعة المجزرة التي حصلت في تلك المنطقة من حمص الوادعة الأبيّة بوصفٍ لا يتسع له المقام، ثم يُكمل بهذه الكلمات:
laquo;قد يحتار الإنسان في تقييم ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا حقيقة، والسبب يعود إلى قوة إصرار الطرفين في تحقيق ما ينشدون، لكن هزائم النظام الإعلامية والمادية والتخبط وحالة الإنهاك التي وصل لها رجال الأمن توحي بأن النظام ساقط سقوطاً مدوياً بإذن الله، لكن ليس كأي سقوط، بل سقوط يرضى عنه ساكن الأرض والسماء بإذن الله.
فعلى صعيد المتظاهرين فإن ما يشاهَد من إصرارهم ووقوفهم بوجه رشاشات الرصاص والمدافع يجعل الإنسان يدرك معنى الآية الكريمة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).. يجعل الإنسان يقف مذهولاً من قوة التثبيت التي يثبت الله بها الناس في الشارع. تراهم يسألون: ما أخبار أهل بانياس وما أخبار أهل درعا؟ طمنونا عنهم رغم أنهم بالمحنة سواء إن لم يكن أكثر.
تسمع الكثير من القصص التي تعبر عن احتضان الثورة من قبل الأمة ودعمها، فترى السيارات الصغيرة تدخل إلى تلك الأحياء محملة بالخبز والخضار والماء والطعام، وتسير بين الحواري تنادي من كان محتاجا فليأتِ وليأخذ حاجته، ومن كان يعرف محتاجا فليأخذ له.
حتى الشباب المُفرَج عنهم من الاعتقالات يحدثونك بكل فخر عما فعلوه وكيف صمدوا بوجه المحقق، ويحدثونك عن حالة الانهيار البادية على العناصر الأمنية، كل ذلك رغم آثار التعذيب الظاهرة على وجوه الشباب وأجسادهم، وتراهم في نهاية الأسبوع على رأس المظاهرة التالية.
ترى الناس وهي تحمل في نفوسها حمل أربعين سنة من القهر والقمع، ولا تخطئ ذاكرتها في تفاصيل ما شاهدته في الثمانينيات من القرن الماضي، فلا يمكن أن تتخيل العودة للمذلة بتاتاً. أوقفني رجل أربعيني في أثناء أحد التظاهرات وتحدثنا عما يجري وكان مما قال لي: (نحن نخسر كل يوم أرواحا ونخسر أموالا ونخسر تجارة ونخسر بيوتا ونُعتقل ونُهان، لكن كل ما خسرنا وما سنخسره في قادم الأيام لا يعادل جزءا يسيرا مما سنخسره في حال توقفت هذه الثورة وعدنا لعصر الذل والهوان)، فلا تستطيع الناس تخيل العودة للوراء بتاتاً.
رغم كل هذا تسمع قصصاً في الترفع عن الانتقام، فهذا ضابط بالشرطة دخل بسيارته مع عائلته يوم الجمعة بالصدفة لأحد الأحياء، وتفاجأ بوجود مظاهرة أمامه ولم يعد يستطيع الخروج، وأدرك أنه هالك هو وسيارته لا محالة، وعندما أدرك بعض الشباب حالة الذعر التي أصابت الرجل توجهوا إليه وهدؤوا من روعه وقاموا بفك لوحات السيارة ووضعها بالصندوق الخلفي، وقاموا بالسير بجانبه وتوجيهه لطريق الخروج وهم يطلبون من الشباب عدم التعرض له حتى خرج من الحي سالماً من أي خدش على سيارته.
سبحان الله، تشاهد السكينة والطمأنينة في نفوس الناس وهي تنتظر نصر الله ولم تعد تعوّل إلا على الله، وتدرك بأن الله هو الحامي وهو من قدّر تحرك هذه الناس، وليس لأحد فضل في إدارة الأمور سوى الله، وتدرك بأنها رغم أعزليتها عن السلاح إلا أنها الطرف الأقوى بعون الله، ولقد تكشف لها كل الأبواق الدولية والإعلامية والدينية والتيارات الوسطية ومحاور الممانعة والمقاومة والاعتدال. صارت الناس تشعر بكرامتها وتشعر بعزتها وتشعر بحبها لبلدها وأهلها، كبرت همة الناس وكبرت اهتمامات الناس وارتفع الشأن العام على كل الأمور الشخصيةraquo;.
هكذا يندسُّ شعب سوريا اليوم في فراش الكرامة والحرية. وهكذا يندسُّ في فراش الوحدة الوطنية، فيسمي جمعةً بالجمعة العظيمة، ويسمي أخرى جمعة الحرائر، ويسمي ثالثةً جمعة أزادي (وهي كلمة كردية تعني الحرية بالعربية).
لا غرابة بعد كل هذا أن يرفع الله في عليائه ذكرَ هذا الشعب البطل.
وليس كثيراً أن يمنّ عليه بعد هذا العسر بيُسرين، يَنصَب معهما ليساهم مع إخوانه العرب في تقديم نموذجٍ جديدٍ للوجود البشري على هذه الأرض، يرغبُ إلى خالق الإنسان، ويرغبُ في رؤيته واقعاً حقيقياً كل إنسان.
هل يكون ما نتحدث عنه غريباً وكثيراً ومبالغاً فيه؟ قد يظن البعض ذلك، خاصة ممن (هَرِموا) بعد أن عاشوا عقوداً بعقليةٍ تستكثر على نفسها القدرة على التغيير، وتستكثر على ثقافتها أن تكون فيها ينابيع جديدة للحياة البشرية، وأن يكون لإنسانها قولٌ ودورٌ في عملية تدافع الحضارات.
رغم هذا، يكفينا أملاً أن ثمة جيلاً عربياً جديداً يفهم عمّاذا نتحدث، لأنه هو الذي ألهمنا بفعلهِ ابتداءً أن نقول ما نقول.
التعليقات