عبدالله بن بجاد العتيبي

التقى في فيينا يوم الجمعة الماضي وزراء خارجية أربع دولٍ، لبحث الأزمة السورية ومستقبل سوريا وفق التطورات الجديدة والتغييرات في مراكز القوى، وهذه الدول هي الولايات المتحدة، وروسيا الاتحادية، والسعودية، وتركيا.


وقد صرّح وزير الخارجية السعودي بعد الاجتماع بأن الخلافات لا تزال قائمةً حول موعد رحيل الأسد. وأضاف موضحًا سياسة السعودية: «السعودية تتمسك ببيان جنيف رقم واحد، كما أن السعودية تتمسك بوحدة سوريا، ودخول البلاد إلى مرحلة انتقالية، ووضع دستور جديد، وتنظيم انتخابات». وظلّ وزير الخارجية الأميركي متفائلاً كعادته على الرغم من أن تردد رئيسه كان أحد أهم الأسباب في تفاقم الأزمة السورية.
التدخل الروسي في سوريا له أبعادٌ دوليةٌ تتعلق بالنفوذ الدولي في العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديدًا، ولئن بدا الروس مساندين بشكلٍ كبيرٍ للمحور الإيراني في المنطقة وسوريا، فإن هذا لا يمنع التواصل معهم لخلق حلٍ عملي للأزمة السورية، حلٍ يضمن رحيل الأسد وإن بعد مرحلةٍ انتقاليةٍ يتم التفاهم على طولها مع خروج الجماعات الإرهابية السنية والشيعية تزامنًا مع خلق سلطةٍ جديدةٍ قادرةٍ على تحقيق طموحات الشعب السوري في دولةٍ موحدةٍ ومستقرةٍ تستوعب كل أطياف الشعب السوري.


على طول التاريخ وعرض الجغرافيا لم تكن الصراعات تحلّ بمجرد الرؤى العقلانية أو بمنطق الآيديولوجيا فحسب، بل كان ذلك يتم عبر العمل على عدة مساراتٍ تجمع السياسة بالاقتصاد، ومنطق القوة بمنطق التاريخ، وفرض توازنٍ في القوى على الأرض تدفع باتجاه حلٍ عادلٍ على طاولة التفاوض.


من بين ما أوضحته الأزمة السورية والصراع الأكبر مع إيران في المنطقة هو أن الدول العربية، وتحديدًا السعودية ودول الخليج العربي، يجب عليها أن تعيد بناء قوّتها الذاتية لا العسكرية فسحب، بل كل أنواع القوة كيفما تجلّت مع تعزيز تحالفاتها الإقليمية وحول العالم بكل سبيل، للدفاع عن مصالحها ومصالح شعوبها ومصالح الدول العربية، وأن تحضّر نفسها لمستقبل كبير تكون فيه فاعلةً على كل المستويات وتزيد قوتها أضعافًا بحسن الإدارة وجودة الاستثمار وصرامة القرار ووضوح الرؤية والنهج.


إن استيعاب الخلافات مع الحلفاء لا يقل أهمية عن الوعي بالتوافقات مع الخصوم، ولكن ذلك كله يوزن بميزان العقل والحكمة والمصلحة وفق ما يمليه الواقع وتحكم به معطياته وتفاصيله وما يمكّن من صناعة مستقبلٍ تكون فيه هذه الدول أقوى مكانةً وأصلب عودًا وأقدر على التأثير وفرض النفوذ.


القضية السورية قضية عادلةٌ، ديكتاتورٌ متوحشٌ يقتل شعبه، ويجلب الميليشيات الموالية له لتشارك في القتل، ومثل هذا يجب أن تؤدي أي محادثاتٍ لإبعاده عن السلطة وإخراجه خارج سوريا، ولمواجهة التعقيدات على الأرض، فإن الواجب هو السعي لإعادة إبراز المعارضة السورية المعتدلة ودعم بقايا الجيش السوري الحر والفصائل الوطنية التي لم تتلوث بالإرهاب لتثبيت أقدامها وتوسيع حضورها في مواجهة النظام وميليشياته الشيعية القاتلة من جهةٍ ولمواجهة الجماعات الراديكالية والإرهابية من جهةٍ أخرى.


كتب هنري كيسنجر مقالةً بعنوان «انهيار الإطار الجيوسياسي للشرق الأوسط» نشرها في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وترجمتها صحيفة «الوطن» السعودية، وقد لقي المقال تجاوبًا يليق بمكانة كاتبه وتاريخه، ولكن الصحيح أيضًا أن بعض الكتاب السعوديين والعرب كانوا قد سبقوه في التعرض لأكثر الأفكار والرؤى التي طرحها، ومقالاتهم منشورةٌ وأفكارهم موثقة، ولكن «زامر الحي لا يطرب».


وفي المنطقة ومع المواجهة العسكرية المظفرة التي تقودها السعودية والإمارات العربية المتحدة ضمن «التحالف العربي» في اليمن والأهمية القصوى للنجاح فيها، فإنه يجب ألا تغفل الملفات الأخرى، ففي العراق على سبيل المثال لا ينبغي التسليم بسيطرة إيران عليه، بل يجب العمل الدؤوب مع كل الجهات الوطنية العراقية لاستعادة الشعب العراقي لدولته وافتكاكها من هيمنة إيران وطغيان الميليشيات التابعة لها.


الملف الكردي كذلك هو ملفٌ مهمٌ فالأكراد يتمتعون بحكمٍ ذاتي في العراق ولهم حضورٌ في سوريا وفي إيران وفي تركيا، واستمالتهم لصف الدول العربية يخدم قضايا العرب في كل تلك البلدان، وتأثيرهم داخل العراق لا يمكن الاستهانة به، ولديهم قضايا عادلةٌ بإمكان إحيائها الضغط على بعض صناع القرار في الدول الغربية ودفعهم لاتخاذ مواقف أكثر دعمًا لمواقف دول الاعتدال العربي.


قام وزير الخارجية السعودي بجولةٍ في دول شرق آسيا لتوثيق الصلات وتعزيز العلاقات، وهي خطوةٌ ذكيةٌ، ومن المهم أن تعقبها جولاتٌ في مناطق أخرى في العالم تقف على رأسها منطقة آسيا الوسطى ودولها النفطية وغير النفطية، تلك المتاخمة للصين وروسيا وإيران، فالاستثمار فيها وتعزيز العلاقات معها يمنح نفوذًا في منطقةٍ ذات أهمية استراتيجية عليا لا لمواجهة إيران فحسب، بل لخلق توازنٍ استراتيجي واسعٍ وتوسيع دائرة الحلفاء الذين أصبح بعضهم أقل ثقةً مما كان متوقعًا وأكثر ابتعادًا عن قضايا الدول العربية ضمن رؤى وأوهامٍ متعددةٍ فرضت سيطرتها على بعض قيادات الحلفاء الأقدم.


إن الوقت لا يفوت أبدًا لمن يمتلك الرؤية الصائبة والعمل الدؤوب والقرار الشجاع، هناك دائمًا ما يمكن فعله، والسياسي لا يفتر من تصيّد الحلول وخلق النجاحات، وأي تقدمٍ في أي ملفٍ وإن صغر يمثل لبنةً في استراتيجية أوسع يمكن دائمًا توفير الظروف اللازمة لضمان نجاحها ونجاعتها.


غير مجدٍ أن يردد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نفس كلام الأسد الممل وغير المقنع بأن الذي يقرر رحيل الأسد هو الشعب السوري، فالحقائق تقول إن الشعب السوري تم قتل ربع مليون منه على يد نظام الأسد، وأعداد النازحين واللاجئين منه تقدر بالملايين، إن داخل سوريا، وإن في دول الجوار، وإن في موجة الهجرة الجماعية لأوروبا، والجميع يعلم أن الغالبية الساحقة من الشعب السوري لا تريد الأسد ولا تقبل به بأي حالٍ من الأحوال.


أخيرًا، فإنه إذا كانت روسيا جادةً في إيجاد حلٍ للأزمة السورية فليس عليها أن تتجه لإيران وتطالب بحضورها محادثاتٍ تتعلق بدولةٍ عربيةٍ وشعبٍ عربي، بل عليها أن تتجه للدول العربية، وخاصة مع ما أظهرته هذه الدول من برغماتية عاليةٍ تؤكد الحرص الواضح على إيجاد حلٍ حقيقي في سوريا لاستعادة الدولة السورية وبنائها من جديد لتكون ممثلة لكل الشعب السوري بكل تنوعاته.
&