الالتزام بالبعد الاجتماعي للسياسة، ولو بالحد الأدنى الممكن، يعد أحد واجبات الممسكين بمقاليد أي كيان.

يعد الالتزام بالبعد الاجتماعي للسياسة، ولو بالحد الأدنى الممكن، أحد واجبات الممسكين بمقاليد أي كيان. ويمارس مثل هذا الالتزام من خلال قطاع الخدمات، وفي طليعتها الصحة والتعليم. لكن ما يحدث في الحال الفلسطينية، هو الإنكار البات لحقوق الناس في هذين القطاعين. ولا يقف الأمر عند هذا الإنكار، وإنما يتعداه إلى ممارسات تنمّ عن رغبة في أن يتمثل رئيس السلطة دور المحسن النبيل الحاني، الذي تعلن وكالته الرسمية للأنباء بين الحين والآخر، أنه قدم “مكرمة” لطفل مريض، كان قد تلقى من أسرته مناشدة واستغاثة!

وفي الحقيقة، لم تتجرأ الدكتاتوريات العاتية التي مرّت عبر التاريخ على إظهار مثل هذا السلوك، لاسيما وهي جميعا كانت حريصة على استرضاء مواليها لزوم تحشيدهم، ولم تتأخر عن توفير خدمات أساسية لهم، توسّعت أفقيا في بلدانهم، وبلا كلفة على المواطنين.

خلال أقل من أسبوع، نشرت وكالة “وفا” الفلسطينية الرسمية خبرين عن استجابة عباس لمناشدة أسرتين، واحدة في الضفة والأخرى في غزة، توسلت كلٌ منهما علاج طفلها، الذي يتهدده الموت العاجل. وكان النشر بحد ذاته يدل على خلو ذهن الوكالة من أبسط محددات ثقافة الدولة، وعلى أن ذهنها ممتلئ بفكرة الترويج للمحسن المزوّر، الذي ملأ الفضاء الفلسطيني بمظاهر وتدابير قطع الأرزاق وخنق المجتمع.

هذه الوكالة التي تخدم رئيس الكيان الفلسطيني حصرا، لا تعلم هي ومن تخدمه، أن ظاهرة المناشدة هذه بلغت فيها الخيبة، درجة احتياج الأسرة الفلسطينية معها إلى مناشدة المسؤول الأول، لكي تؤمن العلاج لطفل يئن من المرض. وأغلب الظن أن الوكالة الغبيّة لم تكن تدرك أنها بنشر التجاوب الاستثنائي مع أسرة أو اثنتين أو ثلاث؛ تحكم على النظام السياسي بأنه بلا واجبات، وأن القاعدة هي حرمان الناس من الرعاية الصحية، على أن يكون الاستثناء لقلة من المحظوظين الذين يستجيب رئيس السلطة لمناشداتهم في محاولة لإقناع الناس عبر وكالته الرسمية، بأنه السخي الكريم والذي يتحسّس آلام الناس.

ما وقعت فيه الوكالة، جاء مصداقا لما يدركه المجتمع منذ أن تسلم عباس السلطة، ويتحدث عنه الناس على مدار الساعة. لذا فإن الجديد، هو إسهام الوكالة، دون أن تدري، في التأكيد على هذه الحقيقة. فاحتياج الطفل، والجريح، والمصاب بمرض مزمن، ومن يحتاج إلى غسل الكلية وغيرهم، دون كلفة تخصم من خبز الأسرة؛ لا يزال يقع في باب الأمنيات، ما لم يتدخل فخامته، إيجابا، بعد أن يتلقى رسالة استعطاف تصل إليه ولا يعطلها المعطلون.

لهذه الظاهرة المخزية، الفضائحية، أسبابها المتعلقة ببنية النظام الفاسد، وبالحاجات النفسية لرئيس هذا النظام، وبما يريده من “الأنباء” التي تدفع الناس من جهة إلى ممارسة الاستعطاف والتوسل، على فرضية أنهم بلا حقوق، ومن جهة أخرى، إلى إجزال الثناء عليه، لأن الذي يستجيب لمناشدة أسرة طفل، يمكن أن يستجيب لمناشدات محتاجين، وما على هؤلاء المحتاجين، إلا أن ينتظروا انفراجة منه، قبل أن يموت المريض!

معلوم أن جماعة السلطة يفتقرون إلى الحد الأدنى من فهم البُعد الاجتماعي للسياسة، وأن بُنية السلطة نفسها تفتقر إلى القدرة على ممارسة واجبات الدولة. وفي ظل إطاحة مبدأ الفصل بين السلطات، لن تكون هناك فائدة متوقعة من المناشدة، بنسبة واحد في الألف، إن لم تكن موجهة إلى الرئيس الفلسطيني؛ فهو وحده الذي يقرّر متى وكيف تقوم الدولة بأبسط واجباتها. وعندما يتعلق الأمر بمرض طفل، لا تصلح وزيرة الصحة الفلسطينية للمناشدة، على الرغم من كونها امرأة وأم. فعباس وحده هو الذي ينتشل الدلو من البئر. ولا موضع للعدالة، بين “فخامته” ونداء الاستغاثة!

هذا الرجل، هو نفسه الذي كلما أتيح له أن يلقي خطابا، يتحدث عن وحدة الفلسطينيين وعن المصالحة وعن الشراكة وحتى عن إعادة البناء. وهذه كلّها متلازمات خطابية لخلق انطباعات لا تتبعها طبائع، ولا تبدأ ـ مثلا ـ بإنصاف منتسبي سلطته نفسها وتكريس العدالة، وليس أدل على ذلك من تزايد الشرائح من الجهاز الوظيفي التي تعلن الاعتصام والاحتجاج تلو الاعتصام والاحتجاج!

كان الأكثر إيلاماً على الأسرتين اللتين ناشدتا رئيس السلطة، ويُفترض أنه استجاب لهما؛ هو نشر اسمي الطفلين اللذين يحتاجان إلى العلاج، رباعيا، في وكالة أنباء رسمية. معنى ذلك أن إهمال الطفل المريض، يؤكد أن القاعدة هي حرمان المرضى من العلاج، والاستثناء يكون مكرمة من الرئيس، بل إن الاستجابة نفسها تكون استثنائية، من بين مناشدات كثيرة.

المفارقة هنا، أن رئيس السلطة الفلسطينية، كلّما حاول تجميل نفسه ينزلق إلى تقبيحها أكثر. فعندما يكون راغباً في خلق انطباعات عن نفسه، بالرفق والحساسية الإنسانية، يختار الأسلوب الذي يؤكد على وضاعة نظامه. فطالما أنه هو المنقذ الوحيد للمريض، فما الذي يمكن أن تفعله وزيرة الصحة. ومن دواعي السخرية أن هذه الوزيرة نفسها، تساعد في هذا الاتجاه. فذات مرة، زفّت إلى الشعب الفلسطيني أن سيادته تبرّع بمجموعة من الأجهزة الطبية الضرورية والبسيطة التي وُزعت على المراكز الصحية في الضفة، وأجزلت الشكر للمتبرع وكأنه رجل أعمال، أو كأنه دفع أثمان الأجهزة من جيبه أو جيب أولاده.

فقط في علبة السجائر، التي يحرقها المواطن الذي قد يحتاج إلى الطبابة، تدفع الأسرة ثلاثة أضعاف الثمن الأصلي للعلبة، كرسوم جمركية تصب في خزينة السلطة. وفي الأخير يقال إن رئيس السلطة يأتي على نفسه ويتبرع، أو يستجيب لمناشدة، بإنسانية استثنائية لا مثيل لها في وطن الفلسطينيين، مثلما تحاول الوكالة الفلسطينية الرسمية الإيحاء به. عندئذ، يكون النظام السياسي نفسه بلا واجبات، والمواطن الفلسطيني بلا حقوق.

ليس أسوا من تغاضي المشتغلين في السياسة عن الواجبات التي تعكس شيئا من فهمهم بُعدها الاجتماعي.