عبدالرحمن الحبيب

مرّ ثمانون عامًا منذ آخر حربٍ ساخنةٍ بين القوى العظمى، على غير المعتاد في التاريخ، فتلك أطول فترة خالية من الصدام المباشر بين القوى العظمى منذ الإمبراطورية الرومانية، وذلك بعد درس قاسٍ من حربين كارثيتين كانتا أكثر تدميراً بكثير من كافة الحروب السابقة لدرجة وصفها: الحروب العالمية، مما أجبرت مهندسي نظام ما بعد الحرب على محاولة تغيير مسار التاريخ، ولضمان استمرار هذا السلام الطويل، يتعين إدراك مدى عظمته وكذلك مدى هشاشته، ومن ثم معرفة ما هو مطلوب للحفاظ عليه لجيل آخر كي لا نقع بما لاحظه الفيلسوف هيجل «نتعلم من التاريخ أننا في كثير من الأحيان لا نتعلم منه»، لا سيما مع فقدان ذاكرة الجيل الحالي عن التكاليف الباهظة لحرب القوى العظمى.

هذه خلاصة تقرير لمجلة فورين بولسي، للبروفيسور غراهام أليسون بجامعة هارفارد، وهو مؤلف كتاب «مصيرها للحرب: هل تستطيع أمريكا والصين الهروب من فخ ثوسيديدس؟»، لوصف نزعة واضحة نحو الحرب عندما تهدد قوة صاعدة قوة عظمى مهيمنة الذي حذّر منه المؤرخ اليوناني القديم ثوسيديدس كما حدث بين أثينا وإسبرطة؛ وشارك في التقرير جيمس وينفيلد النائب السابق لرئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة.

حسب الباحثان، فإن العقود الثمانية الماضية الخالية من الحروب بين القوى العظمى مكَّنت من تضاعف عدد سكان العالم ثلاث مرات، ومضاعفة متوسط العمر المتوقع، ونمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي 15 ضعفًا.

نجا العالم من عدة حوادثٍ كارثية، أخطرها أزمة الصواريخ الكوبية، عندما واجهت الولايات المتحدة الاتحاد السوفيتي بشأن الصواريخ النووية في كوبا؛ وبالآونة الأخيرة، من حرب روسيا على أوكرانيا، والتي بدأت عام 2022، هدد الرئيس الروسي بوتين جدياً بشن ضربات نووية تكتيكية. هذا بمثابة تذكير بهشاشة المحظور النووي غير المعلن الذي يقضي باستبعاد استخدام الأسلحة النووية، وحتى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية هي أيضًا إنجاز هش.

في عام 1987، نشر المؤرخ جون لويس جاديس مقالاً بارزاً بعنوان «السلام الطويل» الذي كان أساسه هو الحرب الباردة في ظل مواجهة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بعضهما البعض بترسانات كافية لو حدثت الحرب الساخنة لكانت دماراً متبادلاً لهما وللعالم.. السوفييت كرهوا الرأسمالية، الأمريكيون رفضوا الشيوعية، لكن رغبتهم في منع الدمار المتبادل كانت أكثر أهمية.

عقب سقوط الاتحاد السوفييتي أعادت التغيرات الجيوسياسية ضبط علاقات الولايات المتحدة مع كل من خصومها السابقين ومنافسيها المتزايدين، ولكن بحلول الوقت الذي أصبح فيه ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام 2017، أدى واقع الصين الطموحة سريعة النمو وروسيا الساخطة الانتقامية إلى الاعتراف بأن الولايات المتحدة دخلت عصراً جديداً من المنافسة بين القوى العظمى.

هذه التغيرات الكبرى، تبرز خمسة عوامل قد تُنهي هذا السلام الطويل المستمر، حسب التقرير، الذي يضع فقدان الذاكرة في صدارة القائمة فالأجيال المتعاقبة من البالغين الأمريكيين، بمن فيهم كل ضابط عسكري في الخدمة، لا تملك ذاكرة فردية عن التكاليف الباهظة لحرب القوى العظمى. قليلون هم من يدركون أنه قبل هذه الحقبة الاستثنائية من السلام، كانت الحرب في كل جيل أو جيلين أمرًا طبيعيًا. أما اليوم فيعتقد الكثيرون أن حرب القوى العظمى لن تحدث، مُغفلين أن هذا ليس انعكاسًا لما هو مُمكن في العالم، بل هو انعكاس لحدود ما يُمكن أن تتخيله عقولهم.

العامل الثاني، وجود منافسين صاعدين يُهدد السلام أيضًا، فالصعود الصاروخي للصين يُشكل تحديًا للهيمنة الأمريكية، مُذكراً بتحذير المؤرخ ثوسيديدس المشار إليه من أن صعود قوة جديدة وتزايد طموحاتها سيؤدي حتماً لصراع مع القوة المهيمنة.

الثالث هو أن التوازن الاقتصادي العالمي سيزيد من احتمالية نشوب حرب كما يرى الباحثان، حيث تراجعت الهيمنة الاقتصادية الأمريكية مع تعافي دول أخرى من دمار الحربين العالميتين.

في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد دمار معظم الاقتصادات الكبرى الأخرى، كانت الولايات المتحدة تمتلك نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومع انتهاء الحرب الباردة، انخفضت حصتها إلى الربع؛ أما اليوم، فلا تمتلك الولايات المتحدة سوى سُبع هذا الناتج.

هذا التحول يبرز عالما متعدد الأقطاب، حيث يمكن لدول مستقلة متعددة أن تتصرف ضمن نطاق نفوذها دون طلب إذن أو خوف من عقاب.

رابعاً، عندما تُفرط قوة راسخة في توسيع نطاقها عسكريًا - لا سيما في صراعات تُصنّف في مرتبة متدنية ضمن قائمة مصالحها الحيوية - تضعف قدرتها على ردع القوى الصاعدة أو الدفاع عنها.

كتب الفيلسوف الصيني القديم صن تزو: «عندما ينخرط الجيش في صراعات مطولة، ستنقص موارد الدولة»، وهو ما قد يُفسر التوسع المُكلف لمهام القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، وعجز الجيش عن التركيز على تحديات أكثر إلحاحًا لمواجهة التهديدات الخطيرة فعلاً.

وأخيرًا، والأكثر إثارة للقلق حسب الباحثين، هو ميل قوة راسخة إلى الانزلاق إلى انقسامات سياسية مريرة في الداخل يُشل قدرتها على العمل بتماسك على الساحة العالمية والحفاظ على نظام عالمي ناجح.

هذا ما يحدث اليوم: إدارة في واشنطن تبدو ظاهرياً حسنة النية تقوم بقلب كل علاقة ومؤسسة وعملية دولية قائمة تقريباً لفرض وجهة نظرها حول كيفية تغيير النظام الدولي.