منذ اول عهدي بعملي في الصحافة خريف عام / 1969 وانا في المرحلة الاولى بكلية الاداب / قسم اللغة العربية اختار لي رئيس التحرير ان اكتب موضوعا عن المطرب الكبير ناظم الغزالي ( 1921—1963 ) وقال لي ضاحكاً وهو يمرّ عابرا غرفتنا الصغيرة باتجاه مكتبه القريب منا :
هذا الاقتراح الذي أقوله لك من وحي ما تسمعه أنت من أغاني الغزالي في جهاز تسجيلك الحديث ( الكاسيت ) الذي اشتريته أول نزوله الى أسواق بغداد حتى وأنت مكبٌ على القراءة والكتابة ولم تعبأ من إرهاق ميزانية جيبك وأنت في أول خطواتك للعمل معنا .
فرحت كثيرا وأحسست ان ما اسمعه هو مبعث سُعدي وانا أتجاوز العتبة الاولى من صرح الصحافة العالي وقررت ان يكون موضوعي عن هذا المطرب المتفرد اللامع الذي جنّ جنوني لصوته وعليَّ ان أذهب لملاعب صباه في أحياء منطقة " الحيدرخانه " وأكتب مقالي ميدانياً قريبا من عقر داره .
أخذت حقيبتي وفي داخلها اوراقي واقلامي وانسللت الى أزقة الحيدرخانه سائلا عن بيت محمد ناصر الغزال / اسم ناظم الغزالي الحقيقي فأجابني احد عارفيه وصديق فتوته وجاره القريب من بيت أمّه :
عن اي بيت تسأل يا هذا !! ، وهل محمد ناصر اليتيم الابوين منذ اول عهده بالفتوة كان له مأوى ثابت استقرّ به ايها الصحفي اليانع ، هذا طائر غرّيد لايقف على شجرة او جدار الا وينتقل الى اخر ، فقد تنقل من بيت الى بيت هائما هنا وهناك مثل رياح لاتستقرّ في ايّ مكان ؛ فمرة تراه يزور امه العمياء هناك وهو يشير الى غرفة متهالكة في احد الازقة ويقيم معها ردحا من الزمن ، وأخرى يأوي الى دار عمه السيد محمود غزال غير البعيد عندما ماتت امه وهو في السادسة عشر من العمر ، لكن هذا العمّ لم يطقه نظرا لتوجهاته الفنية الواضحة في مسلكه حتى أنه حين اكمل الدراسة المتوسطة بصعوبة بالغة بسبب الفقر المدقع انضم الى معهد الفنون الجميلة ؛ ولما علم عمّه بتوجهه الدراسي نحو الفن طرده شرّ طردة ؛ فهولا يريد ان يحوي في بيته على ممثل أراجوز على حدّ وصفهِ فيكون أضحوكة للناس ، فاضطر محمد اليتيم المُتيّم بالفن الى حزم حقيبته الرثة القديمة ليطرق باب شقيقه ويتوسل اليه ان يأويه حتى اكمال دراسته في المعهد وتارة اخرى يضطر الى الاقامة والسكن في بيت خالته السيدة " مسعودة " التي كانت في بعض الاحيان تقوده بنفسها لتوصله الى المدرسة المأمونية الابتدائية وظلّت تؤدي دور شقيقتها الام في مرحلة دراسته الاولى .
وبشقّ الانفس استطاع ان يكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة في قسم المسرح سنة / 1948 وانضم الى فرقة الزبانية التي كان قد أسسها الاستاذ الفنان نوري الراوي ( وهو غير التشكيلي نوري الراوي ) سنة / 1947 وبعد الراوي صار يديرها الفنان الكبير حقي الشبلي ومثّل في عرضين هما " أصحاب العقول " و " فتح باب المقدس " ولفت انظار متابعي ومتلقي العروض المسرحية حيث كان دوره يتطلب إداء وصلات غنائية خلال تقديم ادواره التمثيلية فأبهر السامعين بما قدمه من تجديد غنائي غير مألوف بسبب تأثره بالموشحات الاندلسية وإضفاء سمات الموشّح وتلوين جماليته في أصناف المقامات وتأثره الواضح بموسيقى جميل بشير الحداثوية المبتكرة لكنه في نفس الوقت أغضب مقلدي المقامات العراقية الصارمين والتقليديين واتهموه بتغريب الاغنية التراثية العراقية واللامبالاة في الايقاعات الثقيلة التي يتسم بها الغناء العراقي القائم على المقام حتى اتهموه بالضعف والارتخاء وضعف صوته وعدم قدرته على إجادة الغناء التقليدي المقامي القديم لكنه لم يعبأ باتهاماتهم واستمر في تجديده حتى بلغ اسماع العرب بشدوه الجميل المبهر وبلغت حنجرته كل الوطن العربي من مشرقه الى مغربه لا بل وصلت انغامه المستساغة الى شعوب الشرق غير العربي حتى سُمّي سفيرالأغنية العراقية بلا منازع ليس بصوته فحسب انما ايضا بإناقته المتميزة وطلعته البهية وحضوره الملفت لما يمتلك من كاريزما جاذبة واختياره عطرَه المنتقى بعناية حينما يلبس أجمل الازياء لنفسه واضعاً وردة جميلة في صدره تناسب ربطة عنقه وبدلته المنتقاة وفقاً لذوقه الراقي المماثل لرقيّ أغانيه .
وعلى اثر هذه الشهرة انهالت الدعوات اليه لاقامة الحفلات في معظم العواصم العربية والاوربية ونظم رحلات فنية الى الولايات المتحدة وفرنسا وايطاليا ودول اخرى ونال نصيبا وافرا من الانتشار والذيوع وتودد اليه الكثير من صنّاع الفنّ والشعر وانهالت عليه العروض من قبل متعهدي الحفلات لكنه لم ينهك ابدا وبقي صلب العود وأخذ صوته يشيع اكثر فأكثر .
لم يتزوج ناظم الغزالي الاّ مرة واحدة وتعلق بقلب المطربة سليمة مراد التي تكبره بأكثر من عقد من السنوات وهو يخطو في اول الثلاثينيات من عمره وبقي محافظا على عهد زواجه الذي استمر قرابة العشر سنوات بالرغم من التفاف الكثير من المعجبات حوله وتودّد الفنانات العربيات له وكانت عفّته واخلاصه لرفيقة عمره سليمة الباشا مثالا يحتذى سيما واننا نعرف ان الوسط الفني لايخلو من الميل والانجذاب وتبادل الحب بل وكثرة الفضائح بين الجنسين ، وقصة زواج الغزالي معروفة لدى العراقيين حيث التقيا في حفل باحد البيوتات البغدادية صدفة وتبادلا نظرات الاعجاب وازداد ميلهما لبعض بعد ان أدّيا وصلتهما الغنائية فولدت قصة الحب غير المتكافئ عمرا في العام / 1953 لكنه كان خير كفءٍ للعريس الذي ارتضى بهذه الفنانة القديرة ذات الصيت الذائع ونهلَ الكثير من تجاربها الفنية في غناء المقام العراقي وأصوله ونظمه الفني ليزيد من ثرائه الغنائي ثراءً آخر .
اما ما يشاع من ان هذه الفنانة قد دبّرت مكيدة قتله وانها السبب في انهاء حياته وهو في بداية العقد الرابع من عمره فلا تعدو كونها ضربا من الهراء والكذب وهو الذي كانت ترى فيه زوجا وحبيبا وأنيساً وهي تتقدم في العمر وليس لها سواه ظلا ظليلا لها حتى انفصم ظهرها وهزل عودها وبقيت أسيرة الوحدة بعد موته وعزلت نفسها عن المجتمع الفني تماما واستقرت في بيتها مانعةً ايّ فرد من الاسرة الصحفية من الاقتراب منها او اجراء مقابلة معها واتذكر اني وقتها بذلت مافي وسعي لاقناعها بمقابلتي والحديث معي بعد وساطات شتى ولكن ذهبت كل مساعيي في الدنوّ منها ادراج الرياح ولم تقابل احدا من الصحفيين حتى ماتت وحدها كمدا وحزنا على رفيق حياتها ببيتها اوائل السبعينات من القرن الماضي .
قد لايدري البعض من القراء ان الغزالي امتهن التمثيل قبل الغناء في بداية حياته الفنية وكان بارعا في تقمص اية شخصية بما في ذلك الشخصيات المركبة والمزدوجة والتجريدية والغريبة الاطوار وقد رأى فيه حقي الشبلي مستقبلا باهرا وضمّه الى فرقته الشهيرة " الزبانية " لكن الرياح جرت وفق ما تشتهي قلوب واسماع المتلقين حينما طالبوه بوصلات غنائية كلما اعتلى خشبة المسرح وظل يغني إكراما لمحبيه وتنفيذا لمطالبهم .
كما برع ناظم في الكتابة الصحفية وظل ينشر مقالاته التي وصفت وقتذاك بانه من الماهرين في اجادة الصياغة الكتابية وفق منظور اللغة الثالثة او ما تسمى الان باللغة البيضاء باعتبارها مزيجا من الفصيح تتخلله البساطة والاسترسال الواضح بحيث يسهل على القراء بمختلف مستوياتهم فهم واستيعاب مايقرأون ، ومن يراجع ما كتبه الغزالي في صحيفة ( النديم ) تحت عنوان اشهر المغنين العرب يدرك مدى تفوقه ووضوح اسلوبه وخزين ثقافته الفنية وهو يستعرض حياة وميزات المطربين والموسيقيين الذين برزوا في العراق بدءا بزوغ القرن العشرين حتى بداية الستينات من القرن الماضي حيث كانت اول مقالة فنية تاريخية ينشرها الغزالي في الصحيفة المذكورة سنة / 1952 وتلتها مقالات فنية اخرى طوال عقد من السنوات ولم توقفه مشاغله الفنية وكثرة الحفلات التي كان يشارك فيها وسفراته العديدة الى مختلف الاقطار من الاستمرار في الكتابة والتواصل مع الصحافة التي كان يعتبرها تترافق مع مسيرته الغنائية ، بل سعى الى تجميع كل ماكتب في النديم ليضمها في مؤلف شهير سماه طبقات العازفين والموسيقيين كان ينوي طبعه قبيل وفاته .
ذلك هو ناظم الغزالي مطربا صاعدا ونجما متألقا في عالم الغناء الطربي وأديبا مقاليا من الطراز الرفيع ومؤرخا للفن السماعي غناء وعزفا وممثلا يلفت الانظار ، مات وحيدا ببيته صبيحة يوم خريفي من تشرين الاول عام / 1963 بعد رحلة فنية مضنية الى اوروبا حيث حطّ رحاله في لبنان فترة وجيزة ثم التوجه بسيارته الى بغداد إذ استقر اول وصوله لبيته متعبا بعد سفرة اوروبية ناجحة لكنها جدّ متعبة وشاء الموت ان يأخذه منا ومن رفيقة عمره وهو مازال غضّا في اول الاربعينات من عمره حيث مضى رائق الاصوات الى العالم الاخر وكأن الصدوح العذب ليس له عمر مثل عمر الانذال واللئام والسطحيين ممن يسمون أنفسهم فنانين الذين ملأوا ساحاتنا الفنية أعمالا هابطة رثّة فاقدة للمتعة والجمال والفائدة المرجوّة
جواد غلوم
التعليقات