إرتأت حركة حماس منذ لحظتها الأولى الإنشقاق عن الصف الوطني الفلسطيني بإعتبارها خيارا ًإسلامياً فلسطينياً بديلاً، بَنت أدبياتها وشعاراتها على أساس رفض المخزون والموروث السياسي النضالي الذي راكمته سابقاتها من حركات التحرر، وجاهرت بالإسلام السياسي حلاً لا ثاني له، والحال فقد كانت ولادتها خارج رحِم منظمة التحرير المعترف بها دولياً ممثلاً شرعيا ووحيداً للشعب الفلسطيني، أعلنت الحركة أنها آتية بالنصر والتحرير والإصلاح والتغيير وبما لم يستطعه الأوائل، كان التوقيت السياسي لعملياتها العسكرية يهدف في مراحله الأولى إلى عرقلة وتعطيل مسار مفاوضات السلام التي قادها أنذاك الرئيس الراحل ياسر عرفات، حاول عرفات برمزيته احتواء تفرد حماس بقرار العمليات ضد إسرائيل، نجح حيناً وفشل أحيانا، في تلك الآونة كان المزاج الشعبي يميل لصالحها لإعتبارات كثيرة لعل أكثرها واقعيّةً القناعه الشائعه بعدم جدوى المفاوضات و توقُع فشل عملية السلام، وربما لرغبة في تجربةٍ جديدة تَمنحها فرصة تحقيق وعودها بعدما آلت سياسات وممارسات باقي الفصائل إلى نتائج متواضعه نسبياً قياساً بحجم التضحيات.
مَشت حماس على الخُطى نفسها التي سارت عليها حركة فتح في بداياتها وإن بزخَمٍ أقل، نفّذت سلسلة عمليات أدت إلى مصرع إسرائيليين عسكريين ومدنيين، بالمقابل تلقّت وابلاً من الضربات الإسرائيليّة، وإستُهدفت بعمليات إغتيال وإعتقال واسعة نالت من أهم وأبرز رموزها وقياداتها،وبالتزامن مع الصعود الطبيعي لها توسّع الخلاف والإختلاف أفقياً وعامودياً في الخيارات السياسية بين الفصائل، فخاضت _ بالتوازي_ صراعاً مزدوجاً، مع الإحتلال الإسرائيلي من جهة، ومع غريمتها فتح من جهة أخرى.
وسط هذا الإنشقاق الفلسطيني – الفلسطيني، كان الخُبز القطري حاضراً دائماً على مائدة حماس، فقرار الدوحة كان تعزيز هذا المشروع بكافة الوسائل، جاء الخبز أولاً على هيئة دعم إعلامي من خلال قناة الجزيرة التي أفردت لوجوه الحركة منذ تأسيسها إطلالات دعائيّة مكثفة وروّجت لخطاب الإسلام السياسي _ ولا تزال_ رغم الإخفاقات التي ألمّت بهذا الخطاب والمآسي التي نتَجت عنه بعد أن أَفرز إنقسامات في المجتمع وإنفلات في الأمن وساهم في إنزلاق عدة دول وتحوُّلها إلى بؤر صراع متحرك على صفيح ساخن.
شجعت قطر حماس على خوض غمار الإنتخابات التشريعية عام 2006، شكّلت تلك المحطّة مفترق طرق في تاريخ الحركة التي حققت فوزاً كبيراً، فشكّلت الحكومة، تبيّن فيما بعد أن هذا التطور كان إيذاناً ببدء مرحلة جديدة عنوانها تقديم الصراع الفلسطيني – الفلسطيني الداخلي على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وعادت أجواء التوتر بين حماس وفتح إلى الواجهة من جديد، فبادرت السعودية إلى جمع الطرفين للمصالحة وتم التوقيع على "إتفاق مكة " إلاّ أن الإتفاق فشل بعد أسابيع قليلة، وتجددت الإشتباكات بين مُسلّحي الحركتين ما أدى إلى قيام حماس بالحسم العسكري والسيطرة على قطاع غزة مكرّسةً بذلك إنقساماً جغرافياً وسياسياً مع الضفة الغربيّة.
بعد تكريس الإنقسام تدفق الخُبز القطري على غزّة ورعت قطر هذا الخيار وساهمت بدفع نحو 2 مليار دولار لإنشاء مشاريع بنى تحتية وصحية وخدماتية في قطاع غزة، في الوقت الذي لا زال القطاع عموما يعاني من تدني المستوى المعيشي بشكل كبير وتدهورالأوضاع الإنسانية وتفاقمها، الواقع أن حماس تموّلت ونَمت فيما شعب غزة المحاصر إزداد جوعاً.
برزت إزدواجيّة فاقعة في أداء الحمساويين، فقد إرتبكوا في عمليّة المزاوجة بين المقاومة والسلطة، بين خيار مواجهة الإحتلال وضرورة تحقيق التنمية وتأمين سُبل عيش أبناء القطاع، بدى أن فشلاً عميقاً يلوح في الأفق، فشل في إتّساق الواقع مع الشعارات التي قامت على أساسها الحركة، شيئاً فشيئاً بدأت حماس تقترب من الخطاب السياسي الجامع لمنظمة التحرير، إلاّ أن هذه المرونة لم توفر شفاعة سياسية لها، بل فاقمت الإلتباس مع تورطها في محاور وإصطفافات إقليمية مناهضة لسياسات دول الجوار وإلتزاماتها إتجاه القضية الفلسطينيّة.
بعد مُضي ثلاثين عاماً، وفي وثيقتها السياسيّة المُعدّلة التي أعلنتها في شهر مايو الماضي، عادت حماس إلى أبجديّة البرنامج الوطني لمنظمة التحرير، فما الجديد الذي قدمته إذاً منذ تأسيسها؟ كأنك يا أبو زيد ما غزيت!.
والسؤال المشروع والمُلحّ، ما هي الإنجازات المُعْتبرة التي جاء بها هذا الخيار الإسلامي الراديكالي لصالح القضية الفلسطينية؟
فشلت حماس في تحقيق إختراق سياسي جدّي لصالح القضية " المركزيّة "، لكنها نجحت ككيان وفصيل في تحقيق مكاسب خاصة، في بناء وتوسيع دائرة إستثماراتها التعليمية والصحيّة والإعلاميّة والإجتماعية والرياضية، وهي تدير مباشرة وبالواسطة شركات تجاريّة وصيرفيّة وعقاريّة، تؤمن لها تمويلاً ذاتياً وتشكل نواة صلبة تُوظَّف في الحفاظ على قاعدة شعبية تُمثل عَصباً تتكيء عليه في ممارسة دورها ونفوذها السياسي.
هي بالتالي صارت أكثر براغماتيّة وقدرة على تغيير وتبرير مواقفها، فقد كانت ترفض خيار التسوية والمفاوضات، لكنّها في وثيقتها الأخيرة أشارت بوضوح إلى الهدف المرحلي بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 67، وهو ما لا يتحقق إلا نتيجة عملية السلام و المفاوضات المباشرة مع إسرائيل.
وكانت الحركة ترفض التنسيق الأمني مع الإحتلال، لكنّها – بحكم الأمر الواقع – إضطرت إلى التنسيق الأمني واللوجيستي معه إبان سيطرتها الكاملة على قطاع غزّة.
وكان لحماس أيضاً موقف صارخ من الإعتقالات السياسيّة التي شنّتها أجهزة السلطة الفلسطينيّة ضد عناصرها ونشطائها وكوادرها، لكنها قامت بالفعل ذاته ضد عناصر ونشطاء وكوادر حركة فتح في قطاع غزّة، لتكون بذلك قد مارست سياسيا وأمنيا ما سبق لها أن أنكرته على فتح وباقي الفصائل!
في البداية يثور الثائرون لكن عند وصولهم إلى السلطه فهم يُحسنون تقليد السابقين الذين كانوا يوما ما أيضاً ثواراً فدائيين.
تُواجه قطر اليوم أزمة جديّة ومفصليّة مع دول الخليج والعالم، ومن أبرز عناوين الخلاف هي دعمها لحماس ولتنظيم الإخوان المسلمين، وتتردد أنباء عن إستعداد قادة الحركة الموجودين في الدوحة للمغادرة إلى تركيا ولبنان على الأرجح، إلاّ أن الملف المالي هو المحك، ففي حال قطعت قطر علاقاتها معها فهذا سيعني توقف الدعم المالي الكبير الذي تغدقه الدوحة عليها منذ سنوات، ما يعني خسارتها الداعم الوحيد وربّما الأخير لها في المنطقة.
تضيق الخيارات أمام حماس لكنها تبقى مفتوحة على حلول مُفترضة، سيّما وأنها تسعى للحفاظ على مُكتسباتها وموقعها بحال تقدمت حظوظ التسوية الفلسطينية – الإسرائيليّة في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهي تعلم أن لها دور تؤديه في تحضير جمهورها ومناصريها للتعامل مع أي تطورات سياسية قادمة.
من الخيارات المُتاحة المصالحة الوطنية مع حركة فتح، الخيار الإيراني أو التركي ما زال مطروحاً وإن بتكلفة باهظة، ويتقدم أيضاً الخيار المصري في ظل تقارب مستجد تُوّج بدعوة مصر لقيادة الحركة لزيارتها في إطار رغبة القاهرة بإستمرار التواصل مع قطاع غزّة لبحث إمكانية إنقاذه من أوضاعه المعيشية الكارثية.
تُدرك حماس أنه وعند لحظة الحقيقة سيكون عليها أن تحسم بشكل واضح ونهائي إزدواجية السلطة والمقاومة، فإما الإعمار والدولة وبناء المرافق وإمّا طي صفحة المشاركة في السلطة والعودة إلى حفر الخنادق.
لا الشعارات أنقذت شعب غزّة من واقعٍ مشؤوم ولا الخبز القطري يدوم!
كاتب وصحافي لبناني
[email protected]
التعليقات