قد يظن بعض من يتابع قراءتنا للتاريخ أننا بصدد محاكمة التاريخ وهذا هو أسوأ الظنون حيث أن التاريخ هو الحاكم والحكم، والحاكم لا يُحاكم . التاريخ هو المجرى العام لقانون الحركة في الطبيعة والذي لا رادّ لأحكامه ؛ إنما نحن بهذه القراءة نرفض تزوير التاريخ بمثل ما هو التاريخ المتداول ونكشف عن التاريخ الحقيقي لمسيرة البشرية في القرن العشرين وحتى اليوم وهو التاريخ الذي لا يبدأ بكلمة حُكي أن .. بل بالوقائع والأرقام التي يخرس إزاءها كل أدعياء التاريخ المزور .
التاريخ المزور يقول أن النظام الرأسمالي الإمبريالي انبعث من جديد عن طريق العولمة بعد أن تغلب على النظام الإشتراكي وتسبب بانهياره في العام 1991 ، وبعدئذٍ استفرد بالعالم وازداد توحشا في استغلال الشعوب . وبالطبع تقوم على مثل هذا الإفتراض الزائف بناءات فكرية وسياسية وثقافية زائفة بالمثل . أما قراءتنا فتقول العكس تماما، تقول أن الثورة الشيوعية التي استشرفها ماركس وبدأها البلاشفة في روسيا 1917 استطاعت أن تفكك النظام الرأسمالي وتقضي عليه نهائياً ولو متأخراً في السبعينيات بسبب خيانة القيادة السوفياتية للثورة في الخمسينيات، وأن العولمة إنما هي تأكيد على تفكك النظام الرأسمالي المركزي بطبيعته فهو ذو مركز وأطراف مذ خلق . ونزيد على ذلك إذ نرى أن الإدارات الأميركية الحمقاء بعد روزفلت استنفذت كل مقدرات الولايات المتحدة للقضاء على الشيوعية وهو ما أدى إلى إطالة عمر الشيوعية حيث قيد نشاط البورجوازية الوضيعة السوفيتية في تفكيك الإشتراكية ؛ وبغير حماقة الإدارات الأميركية كان سيتفكك الإتحاد السوفياتي في نهاية الستينيات أو مطالع السبعينيات .

ينقسم الذين يقولون ببقاء النظام الرأسمالي إلى مجموعتين، تضم المجموعة الأولى كتبة ومجندي البورجوازية الوضيعة، ويرفض هؤلاء حقيقة انهيار النظام الرأسمالي ليس دفاعاً عن النظام فهم أصلاً من أعداء النظام الرأسمالي لكن موقفهم الكاذب هذا هو الغطاء الوحيد الذي يغطي عداءهم للنظام الإشتراكي الذي يتهدد وجودهم كطبقة طفيلية . أما المجموعة الثانية فتضم الفقراء في معرفة أوليات علم الإقتصاد وخاصة حقيقة النظام الرأسمالي، والقسم الأهم والأخطر في هذه المجموعة هو الشيوعيون الخراشفة (نسبة إلى معلمهم الغبي خروشتشوف) ولا يختلف هؤلاء عن مجندي البورجوازية الوضيعة فعدم انهيار النظام الرأسمالي، وكان قد تنبأ ستالين بانهياره في وقت قريب في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في نوفمبر 1952، الزعم بعدم انهياره يحميهم من الإفلاس السياسي ويبرر تحولهم إلى وطنيين ومصلحين اجتماعيين لا يحتاجون لماركس على الإطلاق !!؟

ما يؤهل المرء لأن يقرر فيما إذا كان النظام الرأسمالي قد انهار قبل أربعين عاما أم ما زال يعمل لا بدّ له من أن يكون على علم تام بماهية هذا النظام . فما هو النظام الرأسمالي ؟
الرأسمالي هو شخص أو جهة تمتلك المال وتخطط لمراكمة أموال أكثر فابتدعت طريقة جديدة لم تكن مطروقة في الماضي ألا وهي شراء قوى عمل (Labour Power) من سوق العمل وتحويل هذه القوى إلى بضائع من خلال توفير أدوات الإنتاج اللازمة والمواد الخام وبالتالي مبادلة هذه البضائع في السوق بنقود تزيد عن كلفة إنتاجها . بهذه الطريقة الرأسمالية يمكن مراكمة النقود . تلك هي العملية الرأسمالية بحذافيرها لا أكثر ولا أقل، أي أن العملية بقضها وقضيضها لها هدف واحد فقط هو خلق المال المتمثل بالبضائع التي لم تكن موجودة قبلئذٍ، ومراكمة النقود وليس تلبية حاجات الشعب كما قد يفترض البعض . هذا النظام انهار بعد أن استقلت الدول المستعمرة والتابعة بفعل ثورة التحرر الوطني العالمية 1946 – 1972 ولم تعد هذه الدول مصرفاً لفائض الإنتاج المتحقق بالضرورة في مراكز الرأسمالية .
في معالجة هذا الإنهيار أعلن قادة النظام الرأسمالي العالمي الخمسة (G 5) من رامبوييه في 17 نوفمبر 1975 أن نقودهم لم تعد بضاعة يتقرر سعرها في السوق كماهي طبيعة النقد، بل الدولة هي التي تقرر سعر نقدها وليس السوق . هذا الإعلان هو في حقيقته إنقلاب كوني وهو ما يعني حكماً أن النقود التي كانت الهدف الوحيد للنظام الرأسمالي لم تعد هي النقود إياها المعروفة محدودة القيمة عبر تحويلها إلى بضاعة ثم تحويل البضاعة عبر ميكانزمات السوق إلى نقود، أي أن السوق التي تقرر القيمة التبادلية للبضاعة هي أيضاً التي تقرر قيمة النقود ومن هنا يتوجب التسليم بأن النقود لا تتقرر وتتحدد قيمتها إلا عبر تحويلها إلى بضاعة ؛ تتحدد قيمتها التبادلية في السوق وليس بغير السوق .
زعماء النظام الرأسمالي المنهار أعلنوا أن قيمة نقودهم لا تتحدد عبر تحويلها إلى بضاعة تتقرر قيمتها في السوق بل الدولة هي التي تقرر سلفاُ قيمة نقودها . هكذا قطع هؤلاء الزعماء الطريق على الرأسمالي وهو من يراكم النقود من خلال شراء قوى العمل وتحويلها إلى بضاعة يبادلها بمزيد من النقود من خلال تحقيق فائض القيمة المتمثل بفائض العمل المأجور . الزعماء الخمسة قالوا أنهم هم أنفسهم من يحدد قيمة النقد وليس السوق البضاعية . وعليه جرى التخلي عن إنتاج البضاعة وهو صلب النظام الرأسمالي، فلا رأسمالية بدون إنتاج بضاعة .
ما يلزم تأكيده هنا هو أن قادة رامبوييه (G 5) لم يقرروا إعلان نقودهم ليست بضاعة كخيار لهم بل كان ذلك المحاولة الفاشلة في استبقاء القرار الدولي بأيديهم بعد أن توقفوا عن إنتاج البضاعة بسبب فقدانهم البلدان المحيطية وقد استقلت . وما يسترعي الإنتباه هنا هو أن أؤلئك القادة أنفسهم استحضروا السخرية من أنفسهم وقد خاطبوا العالم كدول صناعية بعد أن فقدوا الصناعة .

ما حالة العالم بعد رامبويية وقد كفّت الدول الصناعية الكبرى عن تصنيع البضاعة ولم تعد دولاً صناعية؟ هل يمكن للعالم أن يعود القهقرى إلى الحياة الزراعية بعد أن خبرت الشعوب وفرة ثراء النظام الرأسمالي ؟ لا يمكن القبول بذلك حتى لو اقتضى الأمر الإنتقال إلى الإشتراكية حيث لا يتحقق فائض الإنتاج مهما انطلقت عجلة الإنتاج بسرعتها القصوى . ما حيلة دهاقنة الرأسمالية وقد أفلسوا في الهروب من الإشتراكية مع ضمان رفاه شعوبهم !؟ ذلك هو الحجر الذي صاد ثلاثة عصافير بضربة واحدة وهو نقل الإنتاج الرأسمالي إلى كوريدورات الثورة الشيوعية في شرق آسيا، في النمور الستة وفي الصين واستعداد دول الرأسمالية المنهارة باستيراد كل ما ينتجه شرق آسيا والصين . العصافير الثلاثة التي تم اصطيادها بحجر واحد هي التالية ..
1 . ملاءة السوق المحليه في الدول الرأسمالية المفلسة في توفير مختلف احتياجات الشعب عن طريق استيراد مختلف البضائع مقابل دولارت مفرغة من كل قيمة وبذلك يتوفر رفاه الشعب من خلال الدولة (Welfare State) فلا تعود شعوبهم تذكر الإشتراكية .
2 . التخلص من الثورة الشيوعية في دول شرق آسيا وقد شكلت تهديدا خطيرا للنظام الرأسمالي
في الخمسينيات وقد وفروا الشغل لقوى العمل فيها مما انعكس في تحسن أحوالها المعيشية وتناسي الثورة الشيوعية .
3. الإنتاج البضاعي في شرق آسيا وفي الصين بشكل خاص وفر غطاء لنقود الدول الغربية وخاصة الدولار بعد أن غدت عملاتهم بلا غطاء حال انقطاعهم عن إنتاج البضاعة .

يقول ماركس .. ينهار النظام الرأسمالي غريقاً بفائض إنتاجه وينتقل العالم إلى الإشتراكية . وها نحن نرى النظام الرأسمالي ينهار في مراكزه دون أن ينتقل العالم إلى الإشتراكية، فهل ثمة خطأ في نظرية ماركس !؟
فلاديمير إيلتش لينين وهو القارئ العبقري دون شك للماركسية شهد أن "الماركسية كليّة الصحّة" وعليه فليس لنا إلا أن نفسر عدم انتقال العالم إلى الاشتراكية بعد انهيار النظام الرأسمالي بعيداً عن افتراض الخطأ في النظرية الماركسية كليّة الصحّة ..

1 . الثورة الإشتراكية هي عالمية بطبيعتها فكان أن بدأت بالتراجع بعد رحيل ستالين . قام عدد من قادة الإتحاد السوفياتي باغتيال ستالين بالسم ليحلوا محله لكن تبين أنهم ليسوا من قامة ستالين الفارعة، فسرعان ما استكانوا للعسكر وانقلبوا على الإشتراكية . والعالم بالطبع لن يتقدم إلى الإشتراكية بينما قيادة الثورة الإشتراكية تتراجع عن الإشتراكية . بل إن عقد الستينيات من القرن الماضي شهد إنقلابات عسكرية رجعية في العشرات من البلدان المستقلة حديثاً استطراداً للردة الرجعية على الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي .
2 . انهار النظام الرأسمالي العالمي لكن شعوب مراكز الرأسمالية لم تعان من تلبية احتياجاتها المعاشية حيث كان الإمريكان قد نقلوا نمط الإنتاج البضاعي إلى شرق آسيا في سعيهم لمقاومة الشيوعية وبذلك تحولت أمريكا وسائر مراكز النظام الرأسمالي المنهار من مصدّر للبضائع إلى مستورد لها وهي تستورد حتى ما يزيد عن حاجة الشعب بالدين .
3 . النقود الصعبة إبّان النظام الرأسمالي انقلبت إلى نقود جوفاء عديمة القيمة بعد انهيار النظام الرأسمالي . مؤتمر رامبوييه، أول مؤتمر لل (G 5) تعهد بالحفاظ على سعر الصرف لمختلف عملاتهم لكن سعر صرف النقود ليس هو قيمتها الحقيقيىة حيث يمكن صرف عملة منخفضة القيمة بعملة أخرى منخفضة القيمة مثلها، ومؤتمر رامبوييه أعن عزمه على الحفاظ على سعر صرف عملات أعضائه من خلال المضاربة فقط . أما قيمة العملة فلا تتأكد إلا بمبادلتها ببضاعة وهو ما يتحقق حتى اليوم بمبادلة الدولار الزائف ببضائع من شرق آسيا فقط .

وهكذا فالعالم على حقيقته، كل العالم، ومنذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، في حالة فوضى الهروب من الاشتراكية . هرب السوفييت من خلال تحويل الإقتصاد من الإنتاج البضاعي إلى إنتاج الأسلحة ؛ وهرب الأمريكان من الإنتاج البضاعي إلى إنتاج الخدمات يرافق ذلك نجاحهم في تزييف الدولار ؛ وهربت الصين وجنوب شرق آسيا إلى إنتاج البضائع ومبادلتها بدولارات زائفة لا قيمة لها فعلياً بفعل الفزع من النظام الإشتراكي . 
التناقض الرئيس في عالم اليوم، عالم الهروب من الاشتراكية، ليس هو التناقض القديم (رأسماليون/عمال) حيث كانت الثورة الشيوعية قد نجحت في حل هذا التناقض وانهار النظام الرأسمالي الإمبريالي في الحرب العالمية وما بعد الحرب . التناقض الرئيس الذي يلعب الدور الحيوي والنشط اليوم هو التناقض بين إنتاج الصين وشرق آسيا وهو من إنتاج مئات ملايين العمال ومبادلته بدولارات زائفة لا قيمة فعلية لها طالما أنها مكشوفة تماماً على الصعيد الوطني . يعتقد كثيرون على غير هداية منهم أن الرأسمالية انتقلت من الغرب إلى الشرق !! لو كانت دولارات اليوم عملة مليئة كما كانت في الخمسينيات لرتب ذلك قبولنا بمناقشة مثل هذا الإعتقاد، أما وأن الدولار اليوم عملة زائفة مكشوفة لا قيمة لها فمثل هذا الإعتقاد لا يستحق المناقشة . دولارات اليوم لا تدور في الدورة الرأسمالية الحيوية (نقد1 – بضاعة – نقد2) فالنقد2 في العملية الرأسمالية لا بد أن يكون أكثر من النقد1 بمقدار فائض القيمة لكن والدولار يعود للولايات المتحدة الأميركية التي تسد عجزها في إنتاج البضاعة بالدين الذي يتعدى الترليون دولاراً سنوياً فلا بد إذاً أن يكون النقد2 أقل قيمة من النقد1 وهو ما يحول دون الاستمرار بالعملية الرأسمالية . لأن الدولارات الأميركية لا تعود تدور في دورة الإنتاج الرأسمالي فالإنتاج البضاعي في الصين وشرق آسيا لن يتطور ليكون إنتاجاً رأسمالياً ولذلك بتنا نرى ترليونات الدولارات تغص بها خزائن دول شرق آسيا بل إن هذه التريليونات من الدولارات لا قيمة تبادلية لها في الأسواق وهي غير قابلة للصرف إذ لو صرف منها ربع ترليون أو نصف ترليون لانهار الدولار حتى التراب .
العامل في شرق آسيا يبادل قوى عمله خلال شهر بمائتي دولار فقط والتي هي بدل عمل عامل أميركي في يوم واحد . مبادلة بضائع شرق آسيا بأوراق نقدية لا قيمة تبادلية لها تختزنها دول شرق آسيا في محافظها المتورمة دون نفع لن يستمر طويلا وسينفجر هذا التناقض في وقت قريب . أما التناقض في هروب البورجوازية الوضيعة السوفياتية من الاشتراكية وهو ما حدث في خمسينيات القرن الماضي حتى بات الشعب الروسي اليوم يعيش على تصدير المواد الخام فالصناعات الاستخراجية لا يتخللها تناقض حي حيث لا تنتج فائضاً للقيمة . ومثلها مبادلة الخدمات في أميركا بدولارات ميتة فإنتاج الخدمات لا ينتج فائضاً للقيمة أيضاً بل حتى الخدمات لا قيمة تبادلية لها . 
ذلك لا يعني أن إنفتاق النظام الدولي القائم سيبدأ من شرق آسيا ومن الصين تحديداً حيث التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج قد بلغ أشده، فلعل الولايات المتحدة تسبق الصين في إعلان انهيار الدولار عندما لا تستطيع الإدارة الأميركية خدمة ديونها الفلكية حيث أن ديونها تناهز اليوم 20 ترليون دولار إلا أن الدولار لا ينفع لتسديدها وهي تعلم أنه كلما زادت خدمة الدين كلما هبطت قيمة الدولار، ودولار اليوم لا يساوي أكثر من ثلاث سنتات من الدولار الرأسمالي .
كان الرئيس باراك أوباما أكثر رؤساء أميركا وعياً وقد أكد في مقاربة أزمة العام 2008 أن كل المقاربات لأزمة الرهن العقاري فاشلة والمقاربة الوحيدة الناجحة هي العودة إلى الإنتاج البضاعي وهو ما يؤكد أن أزمة 2008 لم تكن أزمة النظام الرأسمالي كما يفترضها كثيرون، لكن أوباما لم يجرؤ على التصريح بأن العودة إلى الإنتاج البضاعي يتم فقط في النظام الإشتراكي .
إنهيار الدولار يعني انهيار النظام العالمي القائم وهو ليس نظاماً بل فوضى، فوضى الهروب من الإشتراكية . الدولار منذ انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات، بعد الردة على الاشتراكية في الخمسينيات، يحكم العالم ويرتب خريطته الجيوسياسية . وحذارِ أن يظنن أحد أن أميركا بدولاراتها قد غدت الحاكم بأمرها بل هي حقاً غدت المحكوم بأمر الدولار مثلها مثل سائر الدول الأخرى ؛ أميركا تصدر الدولار ذلك ما يزيد من أثقالها .


(إنتهى)

أما وقد جاءت الخاتمة عظيمة الأهمية في المقال العاشر من سلسلة "قراءة مختلفة للتاريخ" فيرجى من سائر الأحزاب والمنظمات الشيوعية أن تطرح هذه الخاتمة على جميع أعضائها فهي كما أراها القراءة الصحيحة الماركسية للتاريخ والهادي الوحيد للعمل الشيوعي .