يَشهد لبنان في هذه المرحلة خللاً واضحاً في ميزان القوى لصالح حزب الله المنخرط طرفاً في الحرب السوريّة، ويُكثِر أمين عام الحزب من إطلالاته المتلفزة ويُزْبِد في أحاديثه البانورامية عن الأوضاع العامة في المنطقة ولبنان إنطلاقاً من كون شخصه ركيزةً وذراعاً لإيران في أكثر من ساحة عربيّة، ولعل الأوضح والأمضى حجة في الرد على طروحات نصرالله كان ولا زال سمير جعجع رئيس الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانيّة.
تاريخياً، يمكن إعتبار سمير جعجع وحسن نصر الله أهم شخصيّتين قياديتين أفرزتهما الحرب الأهلية وقادتهما الظروف الموضوعيّة إلى سدّة المسؤوليّة الوطنيّة من خارج شرنقة الزعامة الموروثة ضمن العائلات السياسية في لبنان كما من خارج النّسق العام لمؤسسات الدولة.
السيّد حسن نصر الله النازح من بلدة البازورية الجنوبية _بسبب الحرمان المزمن الذي قاسته مناطق الأطراف_ إلى منطقة الكارنتينا على تخوم العاصمة، إلتحق مبكراً بحركة المحرومين التي أطلقها الإمام المغيّب موسى الصدر ولعلّ ذلك كان تعبيراً عن رفضه الصيغة التي قام عليها النظام السياسي اللبناني أنذاك، وما إن هلّت بشائر ما عُرف بالثورة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني حتى وجد نصر الله ضالّته فإنخرط_ عضوياً_ بهذا المشروع كجندي في ولاية الفقيه، وكان مرشد الثورة الإيرانية قد أوعزعام 1979 م بتأسيس ( الباسيج) وتَعني بالفارسيّة قوات تعبئة المُستضعفين، وهي شبه عسكريّة تتكون من متطوعين بمثابة القوة المساعدة، تشارك في أنشطة مثل الأمن الداخلي وتوفير الخدمات الاجتماعية، وتنظيم الاحتفالات الدينية العامة وتتبع مباشرة للحرس الثوري الإيراني (الباسدران) وعليه يمكن القول - بمعنى ما - أنّ بداية المشوار كانت منذ أن كرّس نصر الله نفسه " باسيجياً ".
وتأسس حزب الله بصفته إمتداداً لثورة إيران في لبنان، وبهذا إنطلقت مسيرة تطويع الوطن وصيغته القديمة ليتماشى مع مشروع الثورة الإسلامية وإستراتيجيتها الأمنية والسياسية والإجتماعية في المنطقة.
والأرجح أن ذلك الكيان الوارد في الأدبيات والكلاسيكيات اللبنانية لا مكان له في وجدان أمين عام حزب الله حسن نصر الله، لبنان البطريرك الحويك وبشارة الخوري ورياض الصلح وميشال شيحا وفيروز والرحابنة هو لبنان الظلم والحرمان، هو بإختصار لبنان المارونية السياسية والسنية السياسية اللتين هُزمتا عملياً في " زمن الإنتصارات " زمن تمدد مشروع الثورة الإسلامية تحت إمرة وإرشاد الولي الفقيه.
***
نشأ سمير جعجع في بلدة عين الرمانه المحاذية لبيروت لأبوين قادمين من مرتفعات بشرّي الشمالية، وإسم عين الرمانه إرتبط بحادثة مشؤومة في ذاكرة اللبنانيين، ففيها مرّت تلك البوسطة التي كانت تقل فلسطينيين في 13 نيسان 1975 وجرى إطلاق النار عليها من قبل شبان مسيحيين إثر أنباء عن محاولة فاشلة لإغتيال بيار الجميل رئيس حزب الكتائب اللبنانية، قتل في تلك الحادثة 27 فلسطينياً وكانت الشرارة المباشرة لإندلاع الحرب الأهليّة.
الباحث في مسيرة سمير جعجع العسكرية والسياسية لا يجد فيها ما ينفي القول بأن الرجل هو إبن الكيان اللبناني بصيغته التأسيسيّة، وهو بهذا المعنى حمل السلاح مع إندلاع الحرب للدفاع عن الوجود المسيحي عِلّة وجود هذا الكيان، ومع تطوّر الأحداث وتداخل الصراعات نادى جعجع في ثمانينات القرن الماضي بالفيدراليّة وقيام ( لبنان المسيحي) وذلك في برنامج سياسي شهير في تلك المرحلة، لكن سمير جعجع نفسه عاد فيما بعد ليكون أشرس المدافعين عن وثيقة الوفاق الوطني ( إتفاق الطائف) بما تضمّنه من نهائيّة الكيان اللبناني وتغليب مبدأ العيش الواحد بين جميع المكونات، وقد دفع ثمن خياره سجناً دام 11 عاماً ليخرج عام 2005م زعيماً وطنياً رافعاً لمشعل ثورة الأرز في إطار الدستور والدولة القويّة وليستكمل مواجهة الهيمنة السورية أنذاك ومعها ومن بعدها سلاح حزب الله لما يشكله من خلل بالتوازن الداخلي ومن أداة للسيطرة الإيرانية إقليمياً.
***
التباينات في الرؤى والسياسات والنظرة للبنان قائمة جذرياً بين نصر الله وجعجع، ولعلّ سلوك واحد كفيل بتوضيح صورة كاملة، فلم يسبق لا لسمير جعجع ولا لأي زعيم مسيحي لبناني آخر أن أرسل قواته للقتال إلى جانب مسيحيي سوريا أو العراق أو مصر أو فلسطين أو أي مكان آخر، فيما بالمقابل إستسهل أمين عام حزب الله إرسال آلاف المقاتلين من شيعته إلى خارج لبنان للقتال إلى جانب الحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق واليمن والبحرين وحيث تدعو الحاج.
هذا إنما يؤكد أن مسألة السيادة ومعنى الوطن والكيان النهائي بشروطه الضامنة ( الحرية – السيادة – الإستقلال) هي من القيم العميقة البالغة الحساسيّة والمتجذرة في صميم ووجدان كل مسيحي مشرقي، إلاّ أن هذه القيم نفسها ليست بالوضوح والتماسك ذاته عند المسلمين في لبنان ( السنة والشيعة) فهي لا زالت موضع إهتزاز وإالتباس كبيرَين مع مراعاة الفرق.
في آخر تصريحاته نادى السيّد نصر الله بـمعادلة رباعيّة أضاف فيها الجيش السوري إلى ثلاثية الجيش – الشعب – المقاومة التي يُروّج لها محوره بشكل دائم، وجاءت هذه المعادلة الجديدة كتعبير سياسي عن مستجدات الميدان السوري وكترجمة لما يُراد للبنان من إعادة إلحاق بفلك السياسة السورية – الإيرانية.
رد سمير جعجع بمؤتمر صحفي على هذا الطرح وقال : "شكرا سيد حسن لأنك أظهرت لنا هذه المرة جزءا أساسيا من المعادلة الفعلية، أي (جيش، شعب، مقاومة وجيش سوري)، لكن المعادلة الفعلية التي تقصدها كل الوقت هي (جيش، شعب، مقاومة، جيش سوري، حشد شعبي عراقي، وحرس ثوري ايراني) " وأضاف : "كيف لك سيد حسن أن تفترض أن من الممكن أن نقبل بمعادلة لا علاقة لها بالبلد، فأين يصبح لبنان الكيان، وأين يصبح لبنان الدولة، وأين يصبح لبنان الميثاق، وأين يصبح لبنان التعايش، وأين يصبح لبنان الأسطورة، وأين يصبح لبنان النموذج، وأين يصبح لبنان الرسالة؟ بالنسبة إلينا المعادلة الجوهرية كانت وستبقى ( شعب لبناني، دولة لبنانية، جيش لبناني)، وآلاف النقاط على السطر ".
***
لكن، إلى جانب السطر هناك ما وراء السطر، والثابت الوحيد في رمال السياسة المتحركة هو المتغيّر، وكافة القوى السياسية اللبنانيّة تُقيّم ما يجري على الأرض السوريّة للخروج بإستنتاجات سيكون لها إنعكاس حتمي على الساحة الداخليّة، وتُجمع معظم الأطراف على أن أحد أكثر السيناريوهات ترجيحاً هو الإتجاه نحو " الفيدراليّة " تلك التي جاهر بها جعجع في لبنان أيام شبابه، وهي قد لا تتعارض هذه المرّة مع أجندة أمين عام حزب الله إذا كانت تعني نفوذاً أوسع لإيران في سوريا ولبنان، فهل نصحو ذات يوم على تلاقٍ – في مكان ما – بين سياديّة جعجع وباسيجيّة نصر الله؟
إنه لا مستحيل تحت الشمس، ونحن اللبنانيين معتادون أن نرطُن بلغات عديدة، وقد أضاف جمهور الباسيج اللبناني إلى قاموس لغتهم المحكيّة ترحيباً فارسياً ( خوش آمديد)، أهلا وسهلا، جمهور السيادة - بإنتظار التطورات الإقليميّة _ لم يرد التحية بعد ( خدا حافظ ) وداعاً مع السلامة.
كاتب وصحافي لبنان
التعليقات