نهاد إسماعيل من القدس : وصلت إلى هنا قبل أسبوع وشعرت بخيبة أمل لما رأيته من إهمال للشوارع وتراكم القاذورات في عاصمة إسرائيل الابدية. الافق والجبال كانت جميلة الطبيعة ولكن المستوطنات شوهت الطبيعة الخلابة. الأسوأ من ذلك الوضع الاقتصادي المتردي والبطالة المتزايدة وكثرة عدد المتسولين في الاجزاء العربية اي الجزء الشرقي من المدينة.

في لقائي مع غبطة المطران رياح أبو العسل في الكاتدرائية الأنجليكانية التي تأوي موردخاي فعنونو الذي فضح أسرار إسرائيل النووية لصحيفة الصندي تايمز قبل 18 عاما شرح لي المعاناة القاسية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، وناقشنا الحالة المؤلمة التي وضعت هذا الشعب المسكين بين نارين.

نار احتلال قاس ونار سلطة فلسطينية فاسدة،، الصحف المحلية مليئة بالتهاني من المتملقين لترقية هذا المسؤول او ذاك. عدد الجنرالات والقادة بألقابهم العسكرية يزيد عن ما يعادلهم في الجيش البريطاني، والوزراء الذين لا يستطيعوا التحرك من منازلهم بدون إذن مسبق من ضابط إسرائيلي يتصرفوا كأنهم يمثلون دولة عظمى والمصلحة الشخصية أصبحت هي الهدف.

ولهذا لم استغرب أن الغالبية الساحقة في الشعب الفلسطيني صارت تحتقر السلطة التي لم يعد لها هيبة أمام الناس وفقدت ما تبقى من مصداقية.

وفي إحدى الجلسات مع جماعة مثقفة تحسروا على أيام الحكم الردني قبل احتلال 1967 ، وهم عبروا عن رغبة في أن يكون هناك بديل فيدرالي مع أشقائهم وذويهم شرق النهر، أي مع المملكة الهاشمية.

وكما لمست على أرض الواقع، فالمعاناة اليومية تزداد شدة رغم التأكيدات الكاذبة التي تعطيها إسرائيل لوسائل الإعلام لإرضاء الحليف الأميركي الذي يحس دائما بالحرج لمواقفه الراهنة داعما لإسرائيل.

ومما شاهدت على أرض الواقع، فإنه بالإضافة إلى الحواجز العسكرية الإسرائيلية وتفتيش السيارات والحافلات، هناك إجراءات وقوانين تعسفية صارمة تصدر بانتظام والهدف الأساسي هو التضييق على المواطن والتنكيد على حياته لكي يهرب من البلد ويفسح المجال ليهودي روسي ان يأخذ مكانه.

ومن المشاهد المؤلمة تلك الطوابير الواقفة في الشمس خارج القنصلية الأميركية للحصول على تأشيرات للهروب من الجحيم الشاروني وعلى بعد مائة مترا هناك طابور أطول يتألف من آباء وأمهات مع أطفال يقفون تحت الشمس الحارقة عدة ساعات دون توافر أماكن للجلوس في الظل أو الذهاب للمرحاض لكي يجددوا بطاقات الهوية الإسرائيلية.

وقال لي أحد المنتظرين الفلسطينيين أن إسرائيل تتعمد أن لا تريد تزويد أماكن انتظار وتسهيلات كعقاب إضافي جماعي..

وبينما كنت استريح في الفندق قرأت مقالا في جريدة (جيروساليم بوست) وهي جريدة ليكودية تنطق باللغة الإنجليزية وشقيقة لـ (ديلي تلغراف) البريطانية المعروفة بولائها لإسرائيل جلب انتباهي خبر مفاده أن وزير السياحة الجديد جدعون عزرا، وهو كما نعرف كان خبيرا في التعذيب والتنكيل في السجناء الفلسطينيين عندما كان رئيس لمنظمة "شين بيت" التي كانت تتخصص في أعمال التجسس والمخابرات والتحقيق مع السجناء وتجنيد العملاء مقابل حفنات بسيطة من "الشاقل" وهي العملة الإسرائيلية.

هذا الوزير الجديد في مقابلة مع جيروساليم بوست صرح انه يخطط لتحويل الجدار إلى نقطة جذب للسياح ويهدف إلى جلب أعداد كبيرة منهم من أميركا وأوروبا لكي يستطيعوا فهم وتقدير حاجات إسرائيل الأمنية.

بعد قراءة المقال طلبت من سائق سيارة أجرة أن يأخذني للجدار، حيث وصلنا الجزء منه الذي يفصل ضاحية أبو ديس عن القدس الشرقية وفعلا كان هناك سياح وأجانب، حتى أنني شعرت أن أمنية الوزير الإسرائيلي جدعون عزرا قد تحققت.

هناك رأيت فريق تصوير تلفزيوني ياباني، وصحافي فرنسي وفريق بريطاني بكامل المعدات التصويرية، أضف إلى هؤلاء عدد من المتظاهرين اليهود والأوروبيين، والمشهد المؤلم الذي أثار اهتمام الصحافيين هو التسلق ذهابا وإيابا من قبل مسنين و أمهات حوامل وأطفال مدارس من خلال ثغرة ضيقة ووعرة وصعبة التسلق.

والمشكلة هي أن كل هذه المناظر الكارثية المؤلمة يتم تصويرها يوميا وتظهر على شاشات التلفزة في جميع أنحاء العالم وحتى في إسرائيل ويشاهدها وزير السياحة جدعون عزرا بنفسه.

واضح أن الجدار يمزق نسيج المجتمع الفلسطيني ويعزل الناس عن أقاربهم ويهدم أي فرص لخلق دولة فلسطينية قابلة للنمو ومتواصلة جغرافيا، لكن القدس تعكس الحالة الفلسطينية عامة، فهي تختلف عن بقية الضفة الغربية في موضوع الأمن الذي تتولاه إسرائيل بقسوة بالغة منتهكة حقوق الإنسان الفلسطيني ومتجاهلة لمعاهدة جنيف والقوانين الدولية. ولعل أهم انتهاك من جانب إسرائيل، هو الضرب بعرض الحائط بقرار محكمة العدل الدولية المتعلق بالجدار.

ولاحظت أنه في المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية أن الوضع ليس بأفضل حال، فهناك انفلات أمني وعصابات مسلحة تعمل لحساب هذا الفريق أو تلك الفئة وتنكل بالناس وتقوم بتصفية الحسابات الشخصية وابتزاز أصحاب العمل بفرض غرامات وأتاوات دون الالتزام بأي قانون، كما أن رجال السلطة الفلسطينية يتنافسون على المناصب الوهمية تحت الهيمنة الإسرائيلية، والساذجون لا يزالوا يطبلوا بالروح والدم نفديك يا أبو عمار كأنه أصبح أهم من فلسطين واهم من القضية المصيرية.

ولعل السؤال في النهاية يطرح نفسه، من هو المستفيد من هذه المهزلة التي يعيشها شعبنا تحت الاحتلال ولا يوجد جوائز لمن يحرز الجواب الحقيقي، لان الجميع يعرف أن شارون هو المستفيد الوحيد من الحالة المخزية التي وصلت بنا لهذا المنعطف الخطير.