باحثون يدافعون عن ميراث بوش: لم يكن سيئًا على طول الخط
أوباما يُنصب بعد أيام والديمقراطية لن تكون على أولوية إدارته

واشنطن: إحتلت قضايا السياسة الخارجية مكانًا محوريًّا في برنامج الرئيس الأميركي المنتخب، باراك أوباما، طوال حملته للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي ثم الفوز بمقعد الرئاسة، وهو ما يُعد أمرًا طبيعيًّا بالنظر إلى إخفاقات السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس بوش الابن، والتي أدت إلى صدع في العلاقات الحيوية مع أوروبا، إضافة إلى التكاليف الباهظة للحرب في كل من العراق وأفغانستان، وقد بَدا في كلتا الحالتين وكأن الحرب قد شنت دون تخطيط لما بعد الاحتلال، وهو الأمر الذي أدى إلى إضعاف الموقف الأميركي عسكريًّا وسياسيًّا، كما أدى إلى تحجيم قدرتها على التأثير من خلال تقديم نموذج للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

تراجع الديمقراطية مقابل الأمن في استراتيجية أوباما الشرق أوسطية

تتمحور استراتيجية الرئيس الأميركي الجديد في مجال الأمن القومي حول إنهاء الحرب الأميركية في العراق، ومكافحة الإرهاب، والحيلولة دون وصول الأسلحة النووية إلى أيدي الجماعات الإرهابية أو إلى دول تعتبرها واشنطن دولا مارقةً، وإحياء دور الدبلوماسية الأميركية، ودعم الديمقراطية والتنمية وحماية البيئة. وتتركز تلك الاستراتيجية في تحقيقها على التواصل مع القوى الإقليمية والدولية، خاصة أوروبا وروسيا والصين، إضافة إلى التأكيد على العمل من خلال أطر ومنظمات دولية، خاصة الأمم المتحدة وحلف الناتو.

وفي الواقع إن قضية الديمقراطية في الشرق الأوسط يجب النظر إليها في إطار هذه الأولويات الاستراتيجية، أي في إطار رؤية الرئيس الجديد للأمن القومي الأميركي وترتيبات الانسحاب من العراق وإعادة الحيوية للدبلوماسية الأميركية والدور القيادي للولايات المتحدة. فقد اعتبر برنامج الحزب الديمقراطي لعام 2008 الديمقراطية أحد محاور الحرب على الإرهاب، إلا أنه أكد عدم إمكانية فرضها من الخارج، إنما لابد أن تكون نتاجًا لعملية داخلية تؤدي إلى بناء مؤسسات الديمقراطية.

وبصفة عامة يمكن القول : إن قضية نشر الديمقراطية قد جاءت في مرتبة تابعة لقضايا الأمن الإقليمي والدولي ومكافحة الإرهاب. وأنها لن تكون على أولوية إدارة أوباما، حيث إنه حتى وقتنا هذا لم يبلور أوباما سياسة لنشر الديمقراطية في العالم العربي بجانب عديد من القضايا الأخرى التي يغيب فيها الجزم بتوجه الإدارة فيها وكيف ستتعامل بها بعيدًا من الرؤى والتصورات التي تطرحها مراكز الفكر الأميركية. بالإضافة إلى خطورة القضايا التي ينتظر أن تحتل قائمة أولويات الرئيس المنتخب، فإن هناك اعتبارات أخرى يمكن أن تضيف إلى احتمالات إبعاد قضية نشر الديمقراطية عن قمة أولويات أوباما، على رأسها التعاون المستمر مع النظم السلطوية في المنطقة وتخوف واشنطن من تصاعد نفوذ قوى الإسلام السياسي في المنطقة كحركة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وحركة حماس في فلسطين.

وعلى هذا فإن الدور الأميركي المنتظر سوف ينصب على دعم الخطوات والإصلاحات الديمقراطية عن طريق تقديم المساعدة من خلال منظمات حكومية أو غير حكومية دولية. وهو ما يعكس رفض منهج التدخل ومنطق الضغط الذي تبنته إدارة الرئيس بوش الابن. وعلى الرغم من أن برنامج الحزب الديمقراطي وحملة أوباما الانتخابية انتقدت دعم إدارة بوش للرئيس الباكستاني الأسبق مشرف، إلا أن أوباما أكد ضرورة التعاون مع مختلف القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، بما في ذلك إيران وسوريا، من أجل دعم الاستقرار في العراق والمنطقة ككل.

ومن هنا يبدو مدخل أوباما أكثر ميلا للواقعية واتخاذ المنحى الأميركي التقليدي في التعاون مع القوى الإقليمية وتفادي الصدام مع الدول الحليفة ذات التأثير. ويُعد هذا المنطلق متسقًا مع توجه الحزب الديمقراطي، والإدارات الأميركية المتعاقبة بشكل عام. ويتفق مع هذا الرأي الكاتب E. J. Dionne Jr. في مقالة في الواشنطن بوست، حيث يرى أن مدخل أوباما للسياسة الخارجية يتسم بالواقعية، ويقوم على دعم المصالح الأميركية من خلال الطرق الدبلوماسية والعمل على تحسين الصورة الأميركية أمام العالم، مع إمكانية استخدام القوة العسكرية فقط بشكل محسوب ومتأن، وهو في هذا يقترب من سياسات بوش الأب مقارنة بالابن، وعلى هذا فقد كان من الطبيعي أن يجري أوباما مشاورات مع برنت سكوكروفت، وهو أحد أقرب مستشاري بوش الأب للسياسة الخارجية، وآخرين من الفريق ذاته. هذا إضافة إلى أن غيتس، الذي اختاره أوباما أن يبقيه في منصبه كوزير للدفاع، كان نائبًا لسكوكرفت حين كان الأخير مستشارًا للأمن القومي. كذلك يرى جون دايل في مقالة في الواشنطن بوست أن خطاب أوباما منذ أن أعلن معارضته للحرب على العراق يرجح أنه على استعداد لمقايضة الأمن بالديمقراطية.

ميراث بوش لم يكن سيئًا على طول الخط

يذهب اتجاه آخر بين عدد من الباحثين الأميركيين إلى أهمية البناء على ما أنجزته إدارة الرئيس بوش في مجال نشر الديمقراطية. ومن بين هؤلاء ميشيل دان الباحثة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي والتي ترى في دراسة بعنوان The Baby, the Bathwater, and the Freedom Agenda in the Middle East نشرت دورية quot;واشنطن كوارتلي quot; هذا الشهر (يناير 2009)، أنه من الخطأ التغاضي عمَّا تم تحقيقه من نجاحات في ظل سياسات بوش لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. خاصة أن دعم الديمقراطية لم يؤدِ إلى توتر العلاقات مع دول المنطقة في جميع الحالات، بل إن هذه السياسات قد أدت في عدد من الأحيان إلى توثيق العلاقات الثنائية مع دول المنطقة، كما حدث مع البحرين والمغرب. كما أن هذه السياسات لم تؤدِ في الغالب إلى إضعاف التعاون مع دول المنطقة في مجالات الأمن الإقليمي ومحاربة الإرهاب، وهو ما تدلل عليه العلاقات مع مصر في عهد بوش الابن، والتي شهدت توترًا ملحوظًا بسبب أجندة الديمقراطية الأميركية، إلا أن التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، إضافة إلى الدور المصري في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لم يتأثر بهذه التوترات.

وتلفت ميشيل دان النظر إلى أن الحالات الوحيدة التي وصلت فيها حدة التوترات إلى درجة الصدام هي تلك التي استخدمت فيها الولايات المتحدة ورقة الديمقراطية لإضعاف النظام الحاكم، وهو ما يبرز جليًّا في حالتي إيران وسوريا. وعلى هذا ترى دان أن دعم الديمقراطية يمكن أن يضر بالعلاقات الثنائية فقط في حالة استخدامه لزعزعة استقرار النظام الحاكم بدلاً من السعي إلى تحقيق إصلاح تدريجي.

وتؤيدها في هذا الرأي باحثة أخرى فيكارنيغي هي مارينا أوتاواي في دراسة بعنوان quot;تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط: استعادة المصداقيةquot;، حيث ترى أن اتباع سياسة هجومية من أجل دعم قوى المعارضة وتحقيق ديمقراطية تتسم بالتوازن بين الحكومة والمعارضة سوف يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي في المنطقة، وهو أبعد ما يكون عمَّا يريده الرئيس الجديد في المنطقة مع الأزمات الموجودة فعلاً في العراق وفلسطين ولبنان، إضافة إلى تأرجح أسعار النفط. ومن هنا تخلص إلى ضرورة التمييز بين تغيير النظم ودعم الديمقراطية.

وبالنظر إلى أهمية الموازنة العامة في توجيه السياسات العامة وأهمية مشروع موازنة عام 2009 الذي تقدمت به إدارة بوش في تحديد أولويات الإدارة الجديدة، فقد عقد مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط حلقة نقاشية تحت عنوان quot;مشروع موازنة 2009: الديمقراطية والحكم وحقوق الإنسان في الشرق الأوسطquot;. وفيها أشار ستيفن ماكينرني إلى زيادة مخصصات الدعم الموجهة لمجموعة دول الشرق الأوسط الموسع التي تشمل باكستان وأفغانستان بنسبة 5.1% عن العام الماضي 2008 لتصل إلى 7.41 مليارات دولار، منها 758 مليون دولار موجهة لبرامج الديمقراطية والحكم، وهي تمثل زيادة مقدارها 89% عن مخصصات العام الماضي وقد توجهت هذه الزيادة بالأساس إلى الأردن ولبنان والمغرب والضفة الغربية وقطاع غزة واليمن، بينما تقلصت المخصصات الموجهة لمصر. ولا شك أن هذه التوزيعات ستؤثرفي قرارات الرئيس المنتخب.

القيادة بالنموذج: هل يمكن أن تحقق زخمًا ديمقراطيًّا في المنطقة؟

لاشك أن انتخاب الأميركي الأسود ذي الأصول المسلمة باراك أوباما لمقعد الرئاسة الأميركي يعد دليلاً على نشاط المجتمع الأميركي وقدرته على التغيير. وقد أحدث هذا النجاح حالة من التفاؤل والأمل لدى قطاعات واسعة من شعوب العالم. الأهم من ذلك أن وصول أوباما لسدة الحكم في الولايات المتحدة قد بعث في عديدٍ من العقول تساؤلات حول ما فعلته شعوبهم ودولهم وحكوماتهم مقارنة بتطور العقلية والعلاقات المجتمعية في الولايات المتحدة. وقد انعكست هذه الحالة الفكرية في عدد من الكتابات لمفكرين وباحثين عرب طرحوا للمقارنة ديناميكية المجتمع الأميركي في مقابل الجمود العربي. وقد أثار هذا الطرح جدلاً فكريًّا وسياسيًّا حول دور الشباب والحراك الاجتماعي في العالم العربي، وكيف تخلفت مجتمعاتنا عن تطورات العصر.

وعلى أي حال ليس بوسع الرئيس الأميركي المنتخب أن يتغاضى عن قضايا الديمقراطية في المنطقة فالمؤكد أن فترة رئاسته الأولى ستشهد انتخابات مهمة في مصر والأراضي الفلسطينية ولبنان والعراق وهي الانتخابات التي يمكن أن تحدد مصائر الأوضاع في تلك الدول لسنوات قادمة. وقد أشارت وثيقة quot;دعم أمننا المشترك من خلال الاستثمار في إنسانيتنا المشتركةquot;، والمنشورة على الموقع الرسمي لباراك أوباما خلال حملته الانتخابية إلى ضرورة العمل على إطلاق سراح الباحثين والناشطين وقيادات المعارضة من السجون في بلادهم، مع ذكر أيمن نور كمثال لمعتقلي الرأي. وسوف تظل هذه الوعود في خلفية صنع قرار السياسة الخارجية للرئيس أوباما.

ومن هنا لا ينبغي النظر للديمقراطية باعتبارها من قبيل القضايا المهمشة على أجندة الرئيس المنتخب، إلا أنها تتخذ شكل القيادة بالمثل أو بتقديم النموذج، وهو ما يأتي في إطار الطرح القائم على أهمية استعادة الدور الريادي للولايات المتحدة على المستوى العالمي، وهو ما يقتدي عدم تقديم وعود بالضغط من أجل تدعيم الديمقراطية لا تقدر الإدارة على تحقيقها.

ومن هنا جاء البرنامج الانتخابي لأوباما مؤكدًا أهمية تقديم نموذج للديمقراطية من خلال السياسات الأميركية ذاتها على المحيطين الداخلي والخارجي، بحيث ينبغي على الولايات المتحدة أن تتوقف عن اختطاف وترحيل المشتبه في انتمائهم إلى تنظيمات إسلامية إلى دول تقوم بممارسة التعذيب، مع ضرورة إغلاق معتقل غوانتاناما، وتحديد موقف صارم من جميع أشكال وصور التعذيب في العراق وأفغانستان، أو في أي مكان آخر يخضع لإدارة الحكومة الأميركية. وباختصار، يمكن القول إن هناك نية، تبقى محل الاختبار، للقضاء على مظاهر النفاق السياسي التي اعترت سياسات إدارة بوش وأدت إلى تشويه صورة الولايات المتحدة عالميًّا.

ولا ينبغي النظر إلى هذا التصور باعتباره يمثل متنفسًا للنظم السلطوية في المنطقة، فهذه النظم سيظل عليها أن تتعاطى مع دور متنامٍ لمنظمات حكومية وغير حكومة دولية تعمل في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحظى بالدعم الأميركي بالإضافة إلى قدر من الشرعية الدولية والاتساق بين أقوال وأفعال الإدارة الأميركية، والتي ستسعى إلى نشر الديمقراطية والدفاع عن إنجازاتها في إطار صورة جديدة للولايات المتحدة والمجتمع الأميركي قائمة على التنوع وقبول الآخر والالتزام بقيم الديمقراطية. وسيبقى على القيادات العربية أن تفسر لشعوبها كيف تجاوز المجتمع الأميركي حواجز العنصرية وانتخب رئيسًا من أصول أفريقية، بينما قبعت الأنظمة العربية في حدود سيطرة الأسر الحاكمة وبطانتها، سواء في ملكياتها أم جمهورياتها. وهكذا يمكن أن تكون القيادة بالنموذج، إذا استطاعت إدارة الرئيس الجديد تحقيق الاتساق بين المبادئ والسياسات، أداة لتحريك المياه الراكدة في مجريات الفكر والثقافة والعمل السياسي على الساحة العربية.