الأيدي الصغيرة في فلسطين تغزو الأسواق
العمال الأطفال: حاجة أواستغلال أو كلاهما؟
خلف خلف من رام الله: ترى علامات المعاناة والإرهاق مرتسمة على وجوههم البريئة، أجسادهم لا تكاد تحتمل المزيد من التعب والجهد، وظهورهم الطرية ملتوية، وأياديهم الصغيرة تكابد الأثقال، وحقوقهم مهضومة، وقوانين حمايتهم مغيّبة، ومعالم الأماكن القاسية تجردهم أحلامهم وتشوش أفكارهم، وتحرمهم من اللهو واللعب، وتخطف وهج الروح من قلوبهم، وتجعلهم يكبرون في غير أوانهم ليحملوا على أكتافهم مسؤوليات غيرهم. النتيجة سرقة أجمل سنين حياتهم وضياع ما تبقى منها في أغلب الأحوال. أنهم العمال لأطفال في الأراضي الفلسطينية، الذين تدق أعدادهم الواردة في الإحصائيات الرسمية خزاناتنا بقوة، وتدفعنا نحو سبر غور هذه الظاهرة، في محاولة لفك طلاسمها، والتوقف على أسبابها، والآثار المترتبة عليها، والحلول العملية المطلوبة للحد منها.
أرقام تدق ناقوس الخطر
يتضح من التقرير الصادر عن جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، بتاريخ 5/4/2009، أن نسبة الأطفال الفلسطينيين العاملين سواءً بأجر أو دون أجر (أعضاء أسرة غير مدفوعي الأجر) بلغت 4.6% من أجمالي الأطفال، بواقع 6.5% في الضفة، و1.7% في قطاع غزة. كما يتبين من المسح ذاته، وهو أحدث مسح فلسطيني حول ظروف عمل ونشاط الأطفال خلال العام 2007، أن أكثر من ثلثي هؤلاء الأطفال العاملين (70.0%) يعملون لدى أسرهم دون أجر، مقابل 20.9% يعملون مستخدمين بأجر لدى غيرهم.
لمعرفة توجهات الظاهرة ومدى تفاقمها، قمنا بمقارنة الأرقام أعلاه مع مسح العامين (2006 و2005)، فكانت نسبة الأطفال الفلسطينيين العاملين في العام 2007 أقل من العام 2006، حيث بلغت النسبة خلال العام المذكور 5.3%. لكن في الوقت ذاته، تبقى النسبة في عام 2007 أعلى من نظيرتها خلال عام 2005، إذ بلغت حينذاك نسبة الأطفال المشاركين في القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية للفئة العمرية (10-17 سنة) 3.8% فقط، أي أن الظاهرة تزداد باضطراد.
الأسباب عديدة
تظهر كذلك بيانات مسح عمل الأطفال في فلسطين عام 2004، أن 71.0% من الأطفال في الفئة العمرية (5-17 سنة) الملتحقون بسوق العمل يعملون بسبب الحاجة الاقتصادية، موزعين على النحو الآتي: (51.4% للمساعدة في مشروع للأسرة. و19.6% للمشاركة في رفع دخل الأسرة). وعليه، يمكن الاستنتاج أن عمل الأطفال في فلسطين غالبًا ما تكون خلفه دوافع شخصية، وليس منظمًا من قبل جهات أو جماعات بعينها.
أما بالنسبة إلى السبب الاجتماعي، فيلخصه الدكتور ماهر أبو زنط، رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس في الضفة الغربية، بالآتي: quot;تعاني الكثير من العائلات الفلسطينية من التفكك والضياع بسبب فقدانها لرب الأسرة من خلال اعتقاله في السجون الإسرائيلية أو مقتله خلال الصراع، وبالتالي يندفع أولاده أغلب الأوقات لسوق العمل لإعالة أسرتهم وأنفسهم وتوفير المستلزمات الأساسية التي تفرضها الحياة، كما أن الأوضاع السياسية التي عصفت خلال السنوات الماضية في الضفة وغزة رفعت من نسبة الأطفال المتهربين من المدارس، والذين اندمجوا في السوق، للعمل في مهن وحرف يدويةquot;.
يضيف: quot;أيضًا قلة المؤسسات التي تهتم في الأطفال وتوجيههم، وعدم وجود وعي لدى معظم الناس بمخاطر عمالة الأطفال، بمجملها أسباب تؤدي لتفاقم الظاهرة وانتشارها في المحافظات الفلسطينية كافة، إلى جانب إجبار بعض العائلات لأطفالها على امتهان مهنة الأب والجد، كجزء من العادات والتقاليدquot;.
القوانين تكفل، لكنها مغيّبة
الدكتور محمد شراقة أستاذ القانون في جامعة النجاح، يبين أن الأطفال فئة مهمة في المجتمع، بالنظر إلى النسبة العالية التي تشكلها من أعداد أفراد المجتمع والقدرات المحدودة لها بالمقارنة مع الأشخاص البالغين، وبلغت نسبة الأطفال عام 2005، 53% من المجتمع الفلسطيني. وفي معرض حديثه عن عمالة الأطفال، من الناحية القانونية، أشار شراقة إلى أن السلطة الفلسطينية أولت أهمية كبيرة لفئة الأطفال، وصلت ذروتها عام 2004 حين وضعت السلطة قانونًا خاصًا بالطفل الفلسطيني.
يبين شراقة أن المادة 43 من قانون الطفل الفلسطيني لعام 2004، تنص على أنه quot;يمنع استغلال الطفل في التسول كما يمنع تشغيلهم في ظروف مخالفة للقانون أو تكليفهم بعمل من شانه أن يعيق تعليمهم أو يضر بسلامتهم أو بصحتهم البدنية أو النفسيةquot;. أيضا ورد في المادة 29 من الباب الثاني في القانون الأساسي للسلطة الوطنية المتعلق بالحقوق والحريات العامة أن للأطفال الحق في quot;أن لا يستغلوا لأي غرض كان ولا يسمح لهم بالقيام بعمل يحلق ضررًا بسلامتهم أو بصحتهم أو بتعليمهمquot;. كما جاء في قانون العمل الفلسطيني رقم (7) لسنة (2000) المادة -93- أنه يحظر تشغيل الأطفال قبل بلوغ سن (15) سنة.
بشكل عام يؤخذ معظم الخبراء على القوانين المحلية الفلسطينية الخاصة بالطفل وحمايته من الاستغلال، أنها قوانين ذات طابع أدبي، وليست ملزمة، ومعظم بنودها تصلح لأن تكون في اتفاقية دولية وليس في القوانين المحلية. كذلك لم تتناول هذه القوانين الحالات التي يقوم أطفال فيها بعمل قد يؤثر على نموهم الجسمي والعقلي، يضاف لكل ما سبق ضعف الرقابة الحكومية والشعبية وغياب الوعي بمظاهر هذه المشكلة.
الأطفال يتحدثون
عبر جولات ميدانية شملت بعض الأسواق، التقينا بعدد من الأطفال العاملين، وسألناهم عن سبب عملهم. الطفل سامي يعيش (12 عامًا)، كان مستندًا لعربة صغيرة بداخلها أنواعًا عديدة من علب السجائر، سألناه عن سبب انخراطه في العمل رغم صغر سنة، فقال: quot;أعمل في هذا المكان منذ عامين تقريبًا، حيث إن والدي معتقل لدى إسرائيل، واعمل لتلبية احتياجاتي واحتياجات أسرتي، فمن خلال هذه المهنة احصل يوميًا على ما يقارب 55 شيكل (13 دولارًا تقريبًا)، وهي كافية لأتحمل التعب والجهدquot;.
أما الطفل فؤاد (ن) (14 عامًا)، فأشار إلى أن اندماجه في سوق العمل مبكرًا، يعود بالدرجة الأولى إلى كرهه في المدرسة ورغبة أهله في دفعه لتعلم صنعة التجارة. يقول فؤاد: quot;التعليم طريقه طويل، وما عاد يجيب همه في هذه البلادquot;. وحري الذكر هنا أن نتائج مسح القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية عام 2006 تبين أن 41.5% من الأطفال (10-17 سنة) داخل القوى العاملة هم من غير الملتحقين بصفوفهم المدرسية، ذلك أن العمل يعتبر البديل المناسب للخروج من المدرسة.
ماذا يقول أرباب العمل؟
لمعرفة موقف أرباب العمل، أجرينا حوارًا مع صاحب (بسطات) عدة، يسمى أيوب سالم، ويعمل لديه طفلان، سألناه عن سبب تشغيل الأطفال، فقال: quot;هم أقل إثارة للمشاكل والمتاعب، وأجورهم أقل من الكبار بكثير، كوني غالبًا استدعيهم عند الضرورة فقطquot;. أضاف: quot;عملنا لا يحتاج إلى جهد كبير، فكل ما يتطلبه الأمر، تسليم السلعة للزبون وتقاضي ثمنها، بالتالي فهؤلاء الأطفال يمكنهم تحصيل مبلغًا من المال يساعدهم على قضاء حاجياتهم ومساعدة عائلاتهم في ظل وضعنا الاقتصادي المتدهور في فلسطينquot;.
علماء النفس يحذرون
كثيرة هي الدراسات التي تحذر من مخاطر عمالة الأطفال، وتجمع على أن الظاهرة تحمل في طياتها مخاطر صحية ونفسية وسلوكية على الأطفال، فبعض الحرف والمهن القاسية -كورش الحدادة- تؤدي إلى تشويه جسم الطفل، من خلال التأثير على طوله ووزنه، فيظل مثلا أقصر من الحجم الطبيعي حتى بعد البلوغ.
بالإضافة إلى ذلك يؤدي جو العمل إلى التأثير على نفسية الطفل، فمن الناحية السيكولوجية ليس مكانه سوق العمل، وبالتالي وجود الطفل في هذا الوضع يخالف مستواه الذهني، وبالتالي يتراكم لديه شعور الحرمان، ويتعرض في العادة لضغط نفسي وصراع داخلي يقتل تفكيره وطموحاته المستقبلية.
كما أن الطفل في سوق العمل يجد نفسه مجبرًا على محاكاة أسلوب الكبار، واستخدام ألفاظا بعينها لأن الشخص يستمد كلماته وسلوكه مع الشرائح الاجتماعية التي يتعامل معها. وهي عملية تنعكس على تفكيره، وفي العادة ينحو الأطفال العاملون إلى السلوك العنفي تجاه الآخرين بسبب سوء معاملة أرباب العمل، ناهيك عن الاكتئاب والعزلة والحرمان.
ما العمل؟
للتصدي لهذه الظاهرة، من المهم توفير إستراتيجية فلسطينية متكاملة، تشمل توفير سياسات وبرامج عمل وطنية، تحلل البيانات والمعطيات، وتتكفل بإعادة تأهيل الأطفال المنخرطين في سوق العمل، وتنشر الوعي بين الجماهير، وتعرفهم بمخاطر ظاهرة عمالة الأطفال، ويفضل كذلك تحسين الخدمات الصحية والتعليمية للأسر الفقيرة حتى لا تدفع بأطفالها لسوق العمل.
من المستحسن كذلك إعادة مراجعة التشريعات والقوانين الوطنية الفلسطينية المتعلقة بحظر عمالة الأطفال، فالمعطيات على الأرض تدفع باتجاه تطوير هذه القوانين وصياغتها بشكل أفضل من أجل تسهيل تنفيذها. ايضا المنظمات والمؤسسات المحلية مدعوة إلى العمل على التصدي لهذه الظاهرة، ومطلوب توفير أجهزة تفتيش ورقابة لمعاقبة من يخالف القوانين ويشغل الأطفال.
التعليقات