أسامة العيسة من أريحا: احتفل فلسطينيون واميركيون في مدينة اريحا، باطلاق مشروع تطوير موقع قصر هشام الاموي في المدينة اريحا.
وهو مشروع تم التحدث عنه كثيرا خلال السنوات الماضية، وسيتم بدعم من الوكالة الاميركية للتنمية الدولية (USAID).
ويعتبر قصر هشام، الذي يحمل اسم الخليفة الاموي هشام بن عبد الملك، وان كان هناك تشكيكا بنسبته اليه، القصر الاموي الاهم في فلسطين، واحد اهم القصور الاموية الصحراوية في بادية الشام.


ويعتبر القصر هو المعلم الابرز فيما يعرف باسم خربة المفجر، التي تقع على بعد 3 كيلو متر إلى الشمال من مركز مدينة أريحا، وهي واحة صغيرة، في غور الأردن، وطوال قرون كانت هذه الخربة محجرا لسكان أريحا، يستخرجون منها الحجارة لبناء منازلهم، رغم وجود هذا الاثر الاموي الهام، على الضفة الشمالية لوادي الناعمة، وبناه الخليفة الأموي ولكنه لم يسكنه بسبب زلزال ضرب المنطقة وتركه أطلالا، وطوال القرون الماضية، كان هذا القصر وأطلاله في صراع مع الطبيعة ومع البشر واستطاع أن يحافظ على كثير من كنوزه في هذه المواجهة غير المتكافئة مع طبيعة قاسية ووعي بشري قاصر، وايضا قوة احتلال ثقيلة.


ومنذ عام 1995، بدأت دائرة الآثار الفلسطينية، بعد أن تسلمت الموقع من الإسرائيليين، بالتخطيط لإعادة تأهيله وعقدت ورشات عمل وبرامج بالتعاون مع مؤسسات أجنبية وفرق أكاديمية من جامعات مختلفة مثل جامعة فلورنسا، واليونسكو، التي رشحت الموقع ليكون على لائحة التراث العالمي، ودعمت عمليات ترميم لفسيفساء القصر.


وياتي مشروع تطوير القصر، بدعم اميركي الان، استمرارا لتلك الجهود الاجنبية، التي شملت إعادة تأهيل الموقع وإنقاذه، وتطوير مرافق القصر الخدماتية وإبراز فسيفساء الحمام في القصر التي تعتبر من أهم معالمه، والكشف عن أرضيات فيسفساء الحمام الكبير التي تعتبر من روائع الفن الأموي.
ويتفق الاثاريون على أهمية قصر هشام، ويعتبرونه واحدا من المواقع الأثرية الرئيسية في فلسطين، ومن ابرز الآثار المعمارية الأموية في بلاد الشام.


الخليفة بحلة حمراء
ونسب القصر إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، على أساس بعض الدلائل الكتابية المكتشفة في الموقع، لكن يعتقد ان الخليفة الوليد الثاني أو الوليد بن يزيد الذي حكم ما بين (743 ndash;749م) هو الذي شيد هذا القصر في الفترة ما بين 743م-744م، حيث لم يكن القصر هو المقر الرسمي للخليفة وإنما هو عبارة عن قصر شتوي للراحة والاستجمام على أطراف بادية الشام ودمر هذا القصر العظيم بواسطة زلزال عنيف ضرب المنطقة عام 749م قبل ان يكتمل بناؤه.


وعثر في إطلال القصر على تمثال لرجل يرتدي حلة حمراء ويقف على أسدين جاثمين، مشهرا سيفا، يعتقد انه للخليفة هشام أو الوليد الثاني.
وجرى تنقيب في الموقع من قبل دائرة الآثار الفلسطينية في زمن الانتداب البريطاني ما بين 1935م-1948م تحت إشراف كل من روبرت هاملتون والدكتور ديمتري برامكي.


وعثر برامكي، وهو آثاري فلسطيني رائد، على نقش يشير إلى أن القصر يعود إلى هشام بن عبد الملك الذي حكم لمدة عشرين عاما (724-743م).
واستمر الحفر في المكان حتى عام 1948، وكانت النتيجة الكشف عن القصر ومسجد وحمامات وفناء كبير تنتشر فيه الأعمدة وبركة مزدانة بالفسيفساء.
وفي العهد الأردني، نقب الدكتور عوني الدجاني، مدير دائرة الآثار الأردنية وآخرين في المكان وأدى ذلك إلى الكشف عن السرداب والحمام الكبير وغيره من معالم.


وعثر الدجاني على بيوت العمال الذين بنوا القصر، ووجد في المخازن كميات من الحبوب والزبيب والتمر والسمسم، وعثر على مواقد وافران، ونقود وأسماء لعمال غير عرب أو غير مسلمين مثل قسطنطين، وسيمون، ويوحنا، وماركوس، يعتقد انه تم الاستعانة منهم بسبب معرفتهم بالفنون البيزنطية.
وكان العثور على أي شيء جديد في الموقع يذهل المنقبين، لأنه كان يكشف على مدى السخاء الأموي الذي انفق على هذا القصر، والذي جعله الأهم من باقي القصور والمباني الأموية في بادية الشام.
ويمكن ملاحظة ذلك من التصاوير الملونة على الجدران، والزخارف من الجبص والتماثيل، والتي تقدم صورة عن ذلك العصر وكأنه إحدى حكايات ألف ليلة وليلة.


ونقلت دائرة الآثار الأردنية المكتشفات إلى المتحف الفلسطيني في القدس المعروف باسم (متحف روكفلر) والذي أصبح ومنذ حزيران (يونيو) 1967 في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، ولم يكن بخلد هشام أو الوليد عندما بدء العمل في بناء القصر، ان تماثيلهما وحاجيات القصر ستكون في سجن دولة ستنشأ بعد قرون اسمها إسرائيل.


ومن بين هذه المكتشفات تمثال الخليفة نفسه والاعمال الجصية بالغة الروعة التي زينت القصر، وتماثيل الراقصات مكشوفات الصدور، وغيرها من مواد ربما تكشف عن طبيعة الحياة في القصور الاموية.
ويجمع الاثاريون، بان هذه القصر دمره الزلزال الذي ضرب المنطقة عام 747م، قبل أن يكتمل أو أن يسكنه الخليفة الأموي، ودمر الزلزال أيضا كثيرا من المواقع مثل كنيسة القيامة بالقدس.
ولكن هذا الزلزال كان له اثر ايجابي في حفظ بعض معالم القصر، ويعتقد انه بسبب الأنقاض المتراكمة حفظت الفسيفساء والمصورات الرائعة التي كانت موجودة فيه.


مسجد ونساء عاريات
ومن أهم القطع الفسيفسائية هي الموجودة في احد الحمامات والمغلق حاليا، وتمثل شجرة نارنج مثمرة، أبدع الفنان الأموي في رسمها حتى انه لم ينس رسم الظلال، والى يسارها غزالان يأكلان، وعلى اليمين أسد يصرع غزالا.
ومن الأمور اللافتة التي تم العثور عليها في القصر المتسع أشكال هندسية لرؤوس رجال مغطاة بالعمامات ونساء مغطاة بالخمار ومزدانة بالأقراط، واخريات عاريات الصدور، وراقصات، ومصورات لجياد طائرة وطيور حجل وحيوانات أخرى.
وفي القصر توجد بقايا خندق مائي، وقاعات وأروقة مرصوفة بالبلاط الأسود، فيها فتحات لخروج الماء من القصر.


وما زال بقايا المسجد موجودا في الجهة الشرقية للقصر، والذي يعتقد بانه المسجد الخاص بالخليفة، وبخلاف باقي منشات القصر فانه خلا من الزخارف أو المصورات، وبجانبه تتناثر قطع من القرميد كانت معدة للاستخدام، وهناك مسجد أخر للضيوف.
ويعتقد بان مقر الخليفة هو في الجانب الغربي ومكون من صفين من الغرف كل صف يحتوي على ست غرف بمساحات مختلفة، لها أبواب داخلية تصلها مع بعضها البعض، ولا تجعل على المقيمين بها مغادرتها.
ومن ابرز معالم القصر الحمام، والذي يعتبر بهندسته واستقدام الماء إليه من ينابيع بعيدة، قصة أخرى متفردة في العمارة الأموية.
ويقع الحمام وسط مسكن الخليفة، وهو ينخفض بمقدار 5 أمتار، ينزل إليه بدرج دقيق، وفيه بقايا مدفأة، وأحواض ساخنة للاستحمام وأخرى باردة، وغرفة بخار، للاستمتاع بحمام بخار، مشابه لما وصل إليه الإنسان المعاصر المترف، ومكان للتمدد والاستراحة، وفوقه غرفة خاصة للخليفة سقفت بالقرميد الأحمر.


وفي سقف الحمام توجد نوافذ لدخول ضوء خفيف ليريح الأعصاب والعضلات المرتخية بفعل طقوس الحمام.
وجميع منشات القصر أو ما بقي منها يمكن أن تثير الاهتمام ومنها القاعة التي بنيت لتكون مخصصة ليجلس فيها الخليفة لمشاهدة الراقصات وفيها عثر على تماثيل لنساء عاريات الصدور ورجال بلباس الأسود.


ولكن المنقبين لم يجدوا أي دليل على أن الخليفة الأموي قضى في هذا المكان حتى لو يوما واحد، لأنه هدم قبل إتمامه، وبهذا لم تتم فرحة الأمويين بقصرهم، وبعد سنوات قليلة انهارت الامبراطوية الأموية، لتحل مكانها إمبراطورية معادية لهم، نقلت مقر الخلافة إلى بغداد وأهملت القصر ولاحقت بقايا الأمويين حتى قتلتهم، واضعة حدا لحكاية عشق طويلة وذات أبعاد درامية عديدة ربطت بين البيت الأموي وفلسطين، حتى قبل إنشاء إمبراطوريتهم.
وهناك دلائل بان جيش صلاح الدين رمم بعض غرف القصر لإسكان جنوده في القرن الثاني عشر الميلادي، وتم معرفة ذلك من العثور على عملات معدنية وفخاريات تعود لذلك العصر.


القصر ما زال منهوبا
ويقع متحف القصر، ضمن موقع قصر هشام، وهو مبنى حديث، رمم بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2000م، ويعتبر هذا المتحف نموذجا لما يسمى متحف الموقع الذي يستخدم لعرض قطعا أثرية من نفس الموقع الموجود فيه، حيث يعرض نماذج للفخار الأموي والعباسي التي اكتشفت داخل القصر والذي يحمل الكثير من ميزات الفخار العصر البيزنطي المتأخر.
ومن أهم أنواع الفخار المعروضة الأواني ذات اللون الأسود، واغلبها زبادي ذات قاعدة منبسطة وجدران مستقيمة ولبعضها أيدي على شكل بروز خفيف، وزخرفت من الخارج بواسطة التحزيز ويعتقد أن اصل هذا النوع من شمال غربي الجزيرة العربية.
وهناك نوع أخر هو الفخار المقطوع واغلبه زبادي لها جدران مصنوعة باليد مزخرفة بزخارف مقطوعة في جسم الآنية وهي مستوحاة على الأغلب عن نحت خشبي.


ويوجد أيضا الفخار المزخرف بالدهان الأحمر مثل الجرار والأحواض المصنوعة من فخار سميك وهو شائع في شمال فلسطين والأردن وسوريا، ومزين بزخارف حلزونية ونباتية.
ومن أهم أنواع الفخار التي تعرض في هذا المتحف النوع المعروف باسم (فخار المفجر) وهو ذو لون اخضر مائل للأبيض، يعتقد انه ادخل إلى فلسطين من بلاد بين النهرين.


ورغم إطلاق مشروع تطوير القصر، الذي تم باحتفال شاركت فيه الدكتورة خلود دعيبس وزيرة السياحة والاثار في السلطة الفلسطينية، فان القصر المهيب سيبقى منهوبا، مع استمرار اسرائيل احتجاز روائع مكتشفاته، من خلال سيطرتها على المتحف الفلسطيني بالقدس.