يصف علم النفس الحب بانه يهدف دائمًاالى الاكتمال والنضوج ويسعى الى تعريف علاقته بالجنس خصوصًا وان الكثيرين يربطون بينهما، كذلك علاقته بالجنون بحيث تتشابه الاعراض بين الانسان المصاب بالاكتئاب وبين الشخص الذي ابتعد عنه حبيبه.
هند البنا*: يُخلد العالم سنوياً مقتل القديس (فلنتاين)،الذي تحول إلى رمز للدفاع عن الحب أمام السلطة الرومانية التي منعت الزواج أي الحياة الإنسانية واستمرار النوع البشري لصالح المد السياسي والعسكري للإمبراطورية الرومانية، أي لصالح الحرب والموت. فالحب مقابل الموت، أو الحرمان من الحق في الحياة. فتلك القصة الشهيرة التي ترسخت في الوعي العالمي، تؤكد أن الهدف من تلك الذكرى، هو التذكير بحالة الحرمان التي مرت بها أحد المجتمعات الإنسانية في مرحلة ما من تاريخها.
فالحب في أعمق مدلولاته النفسية، هو حالة الخوف من الحرمان بكل أشكاله، الخوف من الوحدة أو الفقد، الحرمان من الحياة الإنسانية السوية، أي الكبت لكل الغرائز الحياتية. فالحب هو المرآة التي تنعكس عليها كل أزماتنا النفسية، بداية بالتنشئة الأسرية والمجتمعية، وصولاً لعلاقة الفرد مع السلطة بكل تجلياتها سواء الدينية أو الأخلاقية. فحين نمارس الحب، فنحن نمارس بالتبعية كل أفكارنا وموروثاتنا الثقافية والحضارية.
الحب طبيعة أم ثقافة؟
أثبتت العديد من الدراسات أهمية الحب في تطوير الصحة النفسية للكبار والأطفال، وقد اختلف الباحثون في كونه ظاهرة بيولوجية طبيعية، أم ثقافية، فقد أشارت (هيلين فيشر) الباحثة في الأنثربولوجي أن الحب غريزة بشرية كالجوع والعطش، وقد قسمت الحب إلى ثلاثة مراحل(الشهوة والانجذاب للجنس الآخر ثم الارتباط به)، فالشهوة تتحدد في الرغبة الجنسية تجاه شخص معين يعقبها الانجذاب الجنسي له والرغبة في الارتباط به.. بينما أشار (لورانس كاسلر) الباحث في علم النفس أن الحب لا يمكن أن يكون جزءًا من الطبيعة البشرية بل هو نتاج الثقافة، وارجع ذلك أن الحب قد لا يوجد في بعض الثقافات والمجتمعات.
كما صاغ عالم النفس (روبرت ستيرنبرغ) نظرية مثلث الحب حيث قسم الحب إلى ثلاثة مراحل، العلاقة الحميمة والتي تنتج بين شخصين تظهر في علاقات الصداقة أو علاقات الحب الرومانسية، يعقبها مرحلة الالتزام أي تكوين علاقة دائمة بين الشخصين، ثم العلاقة الجنسية.
إذاً فالحب هو مزيج بين الطبيعة والثقافة، فهو يعبر عن الغزيرة الإنسانية في استمرار النوع، ولكن شكل ممارسة فعل الحب يعتمد على ثقافة كل مجتمع وطبيعته الفكرية، وكيفية تناوله لموضوع الحب ذاته. ومدى ارتباطه بقوانين الأخلاق أو الدين التي تشكل وعي المجتمع..
الحب والجنس:
هناك خلط شائع بين الحب والجنس خاصة في مجتمعنا الشرقي، حيث يعتقد الكثيرون أن التعبير الوحيد عن الحب هو الجنس أو أن أحدهما قد يفضي إلى الأخر بالضرورة. فهناك ارتباط لا فكاك منه بين الحب والجنس، أي أن آلية تعاملنا مع الجنس كشئ محرم خارج إطار الزواج، ينسحب على الحب بوصفه ارتباط بين جنسين في النهاية. مما يشكل ضغوط نفسية على المحبين وكأنهم أصبحوا يمارسون فعلاً محرمًا، مما قد يؤدي إلى مجموعة من الاضطرابات النفسية والسلوكية ولكن هذا خلط خاطئ على المستوى العلمي. فعلم النفس يؤكد أن هناك فروقًا واضحة بين الإثنين، فأهم ما يميز الحب عن الجنس، أن الحب حالة انفعالية شديدة ناتجة عن رغبة الفرد في الفرار من الشعور بالنقص أو القصور أو الحرمان النفسي.
أما الجنس فهو نتاج للكيمياء العضوية أي يشكل دافع للتخلص من التوتر الغريزي المصاحب لحالات الشهوة الجسدية، وغير محدد بموضوع أو شخص معين، فالجنس دائماً غير موجه أعمى لا يميز بين فرد وأخر عكس الحب الذي يؤكد على تميز فرد بعينه عن الآخرين. فحتى في حالة الإشباع الجنسي قد يظل الفرد في حاجة إلى الحب، فالرغبة الجنسية تنتهي بزوال المثير أو الحافز الجنسي، ولكن يظل الحب قائماً، فمن الممكن أن ينسى الإنسان تفاصيل العلاقة الجنسية كما ينسى الحالة المصاحبة لمتعة الطعام التي تنتهي بالشبع، في حين يظل يتذكر كل تفاصيل علاقته بالمحبوب ويُخلد ذكراها، كما في عيد الحب، أو الأعياد الخاصة جداً بين المحبين كتاريخ أول لقاء أو أول هدية مثلاً.عمومًا الجنس يظل موضوعًا مرغوبًا طالما هناك حافز جنسي أو نشاط كيميائي جسدي، ولكن الحب لا يكف عن كونه رغبة ملحة دائمًا لتحقيق الذات والشعور بالأمان النفسي .فحتى لو أفضى الحب إلى جنس، فهو جنس موجه لموضوع أو شخص محدد، فيصبح الجنس في هذه الحالة وسيلة للتعبير عن الحب وليس هدفًا في حد ذاته. فليس كل حب جنس وليس كل جنس حب.
هوس الحب والجنون:
شاع في العالم القديم للإنسانية،أن الحب ضرب من الجنون، فالمحبون دائمًا ما كانوا يوصفون بالجنون، مثل ما نعلمه من تراثنا العربي، كمجنون ليلى.والغريب في الأمر أن الأبحاث العلمية في مجال علم النفس الحديث قد أثبتت صحة هذه الفكرة بشكل ما. فالدراسات النفسية أثبتت أن هناك تشابهًا بين الأعراض الجسدية للحب وبين الأعراض المصاحبة لبعض الأمراض النفسية. مثل الاكتئاب والقلق والوسواس القهري، فالمحب دائم القلق والتوتر على من يحب بشكل مبالغ فيه، ويصيبه الاكتئاب حال بعده عن محبوبه، أو في حال عدم مبادلته نفس الشعور، بل ويسطير على المحب أحيانًا بعض الأفكار التسلطية بزوال محبوبه من حياته. مما يُظهر بعض الأعراض الجسدية المصاحبة للأفكار النفسية مثل الأرق، وفقدان الشهية، واضطراب ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم وآلام في الصدر، واضطرابات المعدة والارتباك، إلى غير ذلك.ولهذا أسبابه العلمية.
إذ أنه من خلال المسح الطبي لأدمغة المحبين، ومقارنتها بنفس نتاج المسح لأدمغة المصابين بأمراض نفسية وعقلية، وجد تشابه ملحوظ في انخفاض مادة (السيروتونين)، وهي هرمون يفرز من الجهاز العصبي المركزي، وهو المسؤول عن تنظيم الحالة المزاجية، والشهية والنوم وانقباض العضلات، والإدراك والذاكرة والتعلم. يصل هذا الانخفاض إلى نسبة 40 % عن النسبة الطبيعية للإنسان. وفي حال المرض النفسي العصابي أو العقلي تنخفض تلك النسبة إلى هذا الحد المشار إليه، وبالتالي تنتج العديد من الأعراض الجسدية التي قد تتشابه مع أعراض الحب الهوسي، مما دعى الباحثون أن يصفوا الحب على أنه شكل من أشكال المرض النفسي. ولكن من الجدير بالذكر أن الأبحاث النفسية قد أكدت على أن الأفراد الذين يفتقدون إلى الحب في حياتهم، يعانون من حالة اكتئاب متفاوت في الدرجة. لشعورهم الدائم بالنقص، وعزلتهم عن العالم المحيط بهم، مما يضخم لديهم ضعف الثقة وأنهم غير مرغوب فيهم. فرغم ما قد يسببه الحب من مشاكل نفسية وعضوية، إلا أنه افتقاده أو الافتقار إليه يسبب مشاكل أكثر خطورة على الصحة النفسية للفرد والمجتمع.
الحب ووهم التملك:
أشار (إريك فروم) عالم النفس الشهير في كتابه ( The Art of Loving ـ فن الحب )، أن سعي الإنسان إلى حب هو سعي للاكتمال وتحقيق الذات، الناتج عن شعور بالافتقار للسعادة في الحياة، فالحب الناضج هو الرغبة في الوجود بشكل كامل. فممارسة الحب بشكل صحي وسليم يستدعي أن يدرك الإنسان ذاته بشكل جيد، وأن يحقق كينونته منفصلة عن الأخر في البداية ثم يسعى لربط ذاته بأخر يحقق لديه مفهوم السعادة .
ولكن حال تحول الحب إلى محاولة إثبات الذات عن طريق آخر، أي معاجلة نقص الذات بالأخر، هنا يتحول الحب إلى تملك، وينتهي الهدف الأساسي من الحب ليصبح رغبة أنانية وطفولية غير ناضجة في العبث بحياة الأخريين وتحويلهم إلى مسوخ تحيا في فلك الفرد الناقص الغير مكتمل، فالحب هو أعظم لحظات إدراك الذات واحترام الأخر كذات منفصلة.
وتطبيقاً لمفهوم فروم عن الحب على الحياة الزوجية، تظهر لنا عدة إشكاليات هامة، فلدى تحقق الحب تحت المظلة المجتمعية بالزواج، وانقضاء الرغبة الملحة من قبل المحبين في أن يعيشوا بشكل دائم مع بعضهما البعض، يتحول الحب في بعض الأحيان إلى حالة من التملك الدائم واستغلال الأخر أكثر من التفكير في سعادته، مما يؤدي لحالة انفصال نفسي وجسدي بين الزوجين، واللجوء لحالة حب أخرى من قبل أحدهما أو كلاهما لحب بديل، قد يؤدي إلى انهيار الحياة بينهما.وهذا يعود بشكل رئيسي إلى المفاهيم الأصلية التي تسكننا عن الحب، وغياب الوعي والتدريب الجيد الواجب توافره للإنسان قبل تفكيره في الارتباط . بخاصة في مجتمعنا الذي أحيانًا ما يجعل الزواج مجرد وسيلة لإشباع الرغبات المكبوتة، أو مجرد واجب اجتماعي مجرد من المشاعر.
ويظل سؤال أخير، وهو هل هناك من لا يمتلك قدرة على الحب؟ فبحسب العلوم النفسية، أن الحب السليم هو حالة النضج الكامل للإنسان، ولكن في حال انعدام النضج النفسي، أو استمرار الوعي الطفولي النرجسي، يصبح الإنسان غير قادر على ممارسة الحب كفعل كينونة، ويسعى فقط إلى الامتلاك، فكما أن الحب غريزة إنسانية، ولكنه أيضًا ممارسة حضارية وثقافية لابد من التدريب الكافي على فهمه وضرورته، وكيفية التعامل معه بشكل صحي.
*أخصائية نفسية
التعليقات