إستطلعت إيلاف آراء عدد من المحللين المغربيين والجزائريين حول الأزمة المستجدة بين فرنسا والجزائر إثر رفض الأخيرة إستقبال وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير. فعزا المغربيون السبب الظاهر إلى الإجراء الفرنسي بإدراج الجزائريين ضمن الرعايا الذين يجب أن يخضعوا إلى تفتيش دقيق في مجموعة من المطارات الأوروبية والأميركية، إضافة إلى موقف باريس من النزاع المفتعل حول قضية الصحراء. إلا أن المحللين الجزائرين استبعدوا تلك الأسباب وحصروا الخلاف بأربع خلفيات تاريخية وسياسية واستيراتجية واقتصادية عالقة أبرزها quot;المطلب التاريخي الذي لن تتنازل عنه الجزائرquot; وهو الطلب إلى باريس بالاعتذار للشعب الجزائري عن جرائم 132 سنة من الاستعمار.

ير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير

أيمن بن التهامي من الدار البيضاء وكامل الشيرازي من الجزائر: فيما تسير العلاقات بين المغرب وفرنسا نحو مزيد من التقدم وتوسيع دائرة التعاون في عدد من المجالات، بدأت تطفوا بوادر توتر بين باريس والجزائر التي رفضت، مؤخرًا، استقبال وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، الذي كان يريد زيارة الجزائر خلال الشهر الجاري.

وأبلغت الحكومة الجزائرية نظيرتها الفرنسية أن كوشنير غير مرحب به، إلا بشرط سحب الجزائريين من قائمة المسافرين المعنيين بإجراءات ''التفتيش الدقيق'' في المطارات الفرنسية. وهذه ليست المرة الأولى التي يعيش فيها البلدين على إيقاع توتر صامت، إذ سبق أن لبدت الغيوم سماء العلاقات بينهما لأسباب عدة منها موقف باريس من النزاع المفتعل حول قضية الصحراء.
ويرى مراقبون أن التقارب المغربي الفرنسي يقلق الجزائر، التي ما زالت متشبثة بموقفها تجاه ملف الصحراء.

ونأى الخبيران السياسيان الجزائريان أنيس بن مختار وهيثم رباني بالخلاف الفرنسي الجزائري عن تقارب باريس مع الرباط، كما رفض بن مختار ورباني في تصريحات خاصة بـ quot;إيلافquot;، أي ربط بين موقف فرنسا من قضية الصحراء والبرود الحاصل مع الجزائر، وحصر الرجلان الخلاف بأربعة خلفيات تاريخية وسياسية واستيراتجية واقتصادية عالقة تبرّر هذا quot;الارتهان المزمنquot; وتجعل من حبل الودّ بين الدولتين مفخخا.

بداية، ركّز الأستاذ أنيس بن مختار المختص بملف العلاقات الجزائرية الفرنسية، على خلفية تاريخية لا تزال تشكّل حجر عثرة في وجه إنعاش علاقات الدولتين، ويتعلق الأمر بمحذور تمجيد الاستعمار الذي فجّر ولا يزال الخلاف الجزائري الفرنسي، خصوصا مع بقاء ملفات quot;الذاكرةquot; عالقة، ما جعل الوضع بين البلدين متأزمًا، ولاسيما بعد تلاشي مسار ميثاق الصداقة.

الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ونظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي في الجزائر بزيارة رسمية تهدف لتحقيق المصالحة بين البلدين في 05 ديسمبر 2007
الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في الجزائر خلال زيارة رسمية تهدف لتحقيق المصالحة بين البلدين وإلى جانبه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في 05 ديسمبر 2007. أ ف ب

وعزا أنيس بن مختار إرجاء زيارة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير للجزائر، إلى ربط الأخيرة بإحراز تقدم نوعي في ملفات الذاكرة وعلى رأسها تقديم الاعتذار للشعب الجزائري عن جرائم 132 سنة، وهو مطلب قال عنه محمد الشريف عباس وزير المجاهدين القدامى : quot;الجزائر لن تتنازل عن هذا المطلبquot;.

وشدّد بن مختار على أنّ الجزائر ستبقي أي انفتاح بينها وبين باريس، مشروطًا بلفتة فرنسية إيجابية تجاه التاريخ، حيث لا تهضم السلطات الجزائرية إمعان فرنسا في تمجيد مرحلة استعمارها للجزائر (1830 ndash; 1962) ورفضها مبدأ الاعتذار على جرائمها ومتابعة جلاديها، لذا سارت الجزائر في اتجاه مضاد من خلال اقتراب ترسيمها قانون تجريم الاستعمار المطروح على نواب مجلس الشعب، ردًّا على قانون تمجيد الاستعمار الذي اعتمدته فرنسا في فبراير/شباط 2005 وظلّت متمسكة به للعام الخامس على التوالي، على الرغم من شراسة الانتقادات الجزائرية.

ولاحظ بن مختار أنّ جميع مساعي الجزائر في اتجاه إرغام فرنسا على الاعتراف بواجب الذاكرة قابلتها باريس بلا مبالاة وبرود، بل وأنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي اختار في أشدّ الفترات حرجًا منطق التجاهل خصوصاً إثر إماطة الغطاء عن 42 ألف جزائري قضوا في تجارب نووية فرنسية قبل نصف قرن، والكشف عن 1200 مقبرة جماعية، فضلاً عن فضيحة دفن النفايات السامة بصحراء الجزائر، إذ تعامل ساركوزي بلا مبالاة مع المسألة التاريخية على ما تنطوي عليه من حساسية مفرطة، حيث قال غير آبه: quot;يجب الكف عن تسويد الماضيquot;، كما اعتبر: quot;أنّه إذا كان هناك من اعتذار، فإنّ أبناء الحركى أحق وأولى بهquot; ويذكر أن أبناء الحركى هم أولئك الذين خانوا الجزائر في كفاحها، ما فجّر ضجة كبرى في الجزائر، وجعل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ينزعج من عدم الاستعداد الفرنسي لأي تجاوب مع مطلب الاعتذار.

من جانبه، أشار الأستاذ quot;هيثم ربانيquot; إلى التعاطي الفرنسي السلبي مع مطالبات جزائرية عديدة بفتح النقاش حول جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر، تبعًا لكون المحتل القديم نفذ محارق مهولة أبادت 8 آلاف قرية كاملة، وأودع مليوني جزائري في السجون، كما زرع 11 مليون لغم تسبّبت بمقتل آلاف الجزائريين، دون إغفال انتهاكات بالجملة كانت أفدحها سقوط 45 ألف شهيد في محرقة الثامن مايو/آيار 1945.

وبالتالي ترفض فرنسا الرسمية اليوم، الإعتذار عن الجرائم التي اقترفتها فرنسا الإستعمارية بالأمس، وأقرّّ بن مختار أنّ هاجس quot; ألغام التاريخ quot; سيظل حتّى إشعار آخر يوتّر العلاقات مجدّدًا بين البلدين، تبعًا لبقاء ألغام الذاكرة تفخّخ الأجواء الثنائية.

وتقاطع بن مختار ورباني بشأن مشروع معاهدة الصداقة التي جرى الاتفاق على تجسيدها زمن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قبل أن يقوم خليفته بدفنها، وهو ما فسّره بن مختار بالعقلية الفرنسية التي تتصنّع دائمًا ما يسميها quot;أبوّة مفبركةquot; مع مستعمرتها القديمة، في وقت تعوّد كبار المسؤولين الجزائريين خلال السنوات السابقة على توجيه انتقادات شديدة اللهجة لفرنسا عبر رسائل سياسية مشفرة بالوعد والوعيد، وهي سمة كادت تطغى على مختلف خطابات الرئيس الجزائري، حيث ذهب بوتفليقة إلى حد القيام بمقارنات بين الأفران التي استعملتها فرنسا الاستعمارية ومحرقة الهولوكست التي أقامها النازيون لإبادة اليهود.

الرئيس الفرنسي يستمع الى الملك المغربي خلال مأدبة عشاء في مراكش في 27 ديسمبر 2009
الرئيس الفرنسي يستمع الى الملك المغربي خلال مأدبة عشاء في مراكش في 27 ديسمبر 2009. أ ف ب

وأدرج أنيس بن مختار الخلفية الاقتصادية المتعلقة بالمشاريع البترولية التي تسيل اللعاب في الجزائر، وأقدمت الأخيرة على منحها لدول غربية بدلاً من فرنسا التي لم تعد تحظى بالأفضلية، وهو ما جعل باريس تتحرك في اتجاه اصطناع سيناريوهات ضغط على الجزائر مثل إحياء قضية quot;رهبان تبحرينquot;، حيث دأب مسؤولون فرنسيون على إطلاق تصريحات مثيرة للجدل حول ما اكتنف مقتل أولئك الرهبان، وهي سيناريوهات إعلامية أثارت زوابع صامتة بين الجزائر وفرنسا، ولا سيما في ظلّ إصرار باريس على طرح أسئلة غير بريئة حول القضية.

كما أقدم الفرنسيون على احتجاز الدبلوماسي الجزائري محمد زيان حساني لأكثر من سبعة أشهر، على الرغم من إثبات التحقيقات براءته من حادثة اغتيال المعارض الجزائري علي مسيلي في أبريل/نيسان 1987 بباريس، وطبعًا معطيات كهذه لها انعكاساتها على تواصل البلدين.

وفي مقام رابع، يسهب بن مختار ورباني في الحديث عن خلفية تقنية ذات بعد استيراتيجي سياسي، وهي ترتبط رأسا بتسهيل تنقل الأشخاص، حيث أنّ فرنسا لم توف بوعودها الكثيرة لتسهيل مرور التأشيرة، إلى جانب اختلاف نظرة البلدين تجاه كيفية التعامل مع ظاهرة الهجرة السرية، وإصرار فرنسا على قيام الجزائر بدور الدركي.

ويتفق بن مختار مع رباني في استبعاد تأثير التقارب الفرنسي المغربي على التوتر الحاصل بين بلادهما وباريس، وفيما أشار الأستاذ هيثم رباني، إلى أنّ تقارب باريس والرباط قديم ولا يمكن له أن يؤثر على العلاقات الجزائرية الفرنسية، لفت أيضا إلى كون الخلاف الفرنسي الجزائري رافقه تراجع أدوار فرنسا على حد قوله، معتبرًا أنّ فرنسا ضعفت وفقدت بريقها بحيث أصبح لا يمكنها فرض أي ضغط على الجزائر بهذا الشأن، وفرنسا بمنظار بن مختار ليست قوة مهيمنة، ولا يمكنها مزاحمة الولايات المتحدة.

وحول انعكاسات موقف فرنسا من قضية الصحراء، يتفق الخبيران في نفي أي تأثيرات، طالما أنّ الجزائر ليست طرفًا في نزاع الصحراء، وبقيت تتموقع كمساند للقضية الصحراوية من باب كونها قضية تصفية استعمار وحلها يكمن في حوار مباشر بين جبهة بوليساريو والرباط يقود إلى تمكين الشعب الصحراوي من تقرير مصيره.

ومن المغرب، وفي هذا الإطار، قال الأستاذ الجامعي في العلوم السياسية في الرباط عبد العزيز قراقي إن quot;العلاقات المتوترة الآن بين الجزائر وفرنسا لها أسباب عدة، إذ يمكن القول إن السبب الظاهر هو إدراج الجزائريين ضمن الرعايا، الذين يجب أن يخضعوا إلى تفتيش دقيق في مجموعة من المطارات الأوروبية والأميركية، وهذا ناتج عن الإجراءات المتخذة في الولايات المتحدة، نتيجة ما حدث في الطائرة المتوجهة إلى ديترويت، والتي أريد تفجيرها، حسب ما أكدته تقارير أمنيةquot;.

العاهل المغربي والرئيس الفرنسي في القصر الملكي في مراكش. وتظهر على اليسار الصورة وزيرة العدل رشيدة داتي، تليها شقيقة الملك الأميرة مريم (الثانية من اليسار) وزوجة الملك الأميرة سلمى (في الوسط) وعلى يمينها بيار ساركوزي. أ ف ب

وأضاف قراقي في تصرحه لـ quot;إيلافquot;، أن quot;التقارب الكبير بين المغرب وفرنسا على مستويات متعددة، يغيظ إلى حد بعيد الجزائر، خصوصًا أن لها علاقات تاريخية مع فرنسا، وأي تقارب مع بلد آخر ترى بأنه يضر بمصالحها، ومن ثم تحاول أن تضغط على السلطات الفرنسية لجعل تعاملها مع الرباط في مستوى أدنى من تعاملها مع الجزائرquot;.

لكن الأستاذ الجامعي أعرب عن اعتقاده، quot;بأن العلاقات متوترة بين البلدين بسبب إجراءات التفتيش، لأن الجزائر تعودت على أن تنتهج سياسة التعامل بالمثل على مستوى العلاقات الدولية، وأنه في هذه اللحظة لا يمكنها أن تجد أي وسيلة للرد على هذا الإجراء سوى إلغاء زيارة وزير الخارجية كوشنير. وفي رأيي لم تستطع الجزائر قراءة المعطيات الجيوسياسية، التي أصبح يفرضها عليها الواقعquot;.

من جهته رأى محمد ضريف، أستاذ العلوم السياسية في جامعة المحمدية، quot;أن فرنسا لها مصالح استراتيجية في منطقة المغرب العربي، خصوصًا في الجزائر والمغرب وتونس. وهي بالتالي تحرص على انتهاج سياسة متوازنة في المنطقة. وأكيد أن هناك زيارات متبادلة يقوم بها مسؤولون فرنسيون للمغرب والجزائر. وأكيد أن الجزائر بين الفينة والأخرى تعبر عن مواقف، يمكن أن نعتبرها ضاغطة على السلطات الباريسية. بمعنى آخر أن بعض المواقف الجزائرية من فرنسا لا يمكن أن نعتبرها بمثابة رغبة من الجزائريين في تقوية علاقتهم مع باريس، بقدر ما يمكن اعتبارها مواقف تستخدم للضغط على فرنسا لمسايرة بعض المواقف الجزائريةquot;.

وأضاف محمد ضريف، في تصريحه لـ quot;إيلافquot;، quot;نحن نعلم بأن فرنسا ترحب إلى حد ما بحل سياسي متوافق عليه في الصحراء المغربية وتدعم الحكم الذاتي، وهو ما لا تنظر إليه الجزائر بعين الرضا إذ تعتبر هذا الموقف منحازا للرباط، وتحاول بين الفينة والأخرى أن تضغط على باريس، باتخاذ بعض الإجراءات التي تبدو للملاحظين كأن الأمر يتعلق بأزمة تمر منها العلاقات بين الجزائر وفرنساquot;.

وأوضح المحلل المغربي quot;نحن نعرف أن الجزائر رفضت استقبال وزير الخارجية كوشنير، كرد فعل على مسايرة فرنسا لقرار أميركي لإخضاع الجزائريين لتفتيش دقيق.ومعروف بأن الجزائر غالبًا ما تتخذ سياسة المثل بالمثل، بمعنى أن بعض الدول عندما تفرض التأشيرات على الجزائريين، فإنها ستفرض بدورها تأشيرات على رعايا تلك الدول. إذًا هناك ثوابت تحكم السياسة الجزائرية، لكن في الوقت نفسه هناك بعض المواقف التي تتخذها الجزائر تجاه فرنسا لا يجب أن نعتبرها عنوانًا لأزمة علاقات بين البلدين، بقدر ما ينبغي النظر إليها باعتبارها مواقف تستخدم للضغطquot;.