يبدو أن الفاتيكان خسر المعركة في قضية الاعتداءات الجنسية على الأطفال في إطار الحملة الإعلامية الكبرى التي انتقدت الكنيسة بشكل لاذع، وفي ما يتعلق بالمحامي الأميركي أندرسون والعالم البريطاني دوكينز فإن الأمر لا يتوقف هنا، وإنما يطال بشكل مباشر الفاتيكان ورأسه البابا.

لندن: رغم أن الفاتيكان واجه على مدى تاريخه أعتى العواصف الجدالية الدينية والسياسية وأحيانا الجنسية، فلا شيء يمكن أن يقارن بتلك التي يمر بها الآن، لسببين رئيسين:الأول، هو فضيحة الاستغلال الجنسي للأطفال على أيدي بعض قساوسته في السواد الأعظم من laquo;الدول الكاثوليكيةraquo;، ومضامينها المرتبطة بالشذوذ الجنسي وما إن كان هذا نفسه ناتجا طبيعيا لمفهوم laquo;نذر العزوبةraquo; الكاثوليكي. والثاني هو أن الفضيحة لا تقف في حدود اولئك القساوسة وإنما تُلقى بكل ثقلها الآن على عتبة الفاتيكان، وتتعداها الى عتبة البابا بنيديكتس السادس عشر نفسه.

علامات على طريق العار.. تسلسل زمني

الفاتيكان يحمّل المثلية مسؤولية الاعتداءات

بل ان الأمر بلغ حدّا أن كلاً من المحامي الأميركي، جيف أندرسون، وعالم الأحياء والمفكر البريطاني، رتشارد دوكينز، يسعى الآن لإجبار laquo;الحبر الأعظمraquo; على الوقوف أمام القضاء متهمًا بالتستر على جرائم كنيسته، وهذه سابقة في تاريخها الحديث على الأقل.

ويشهد هذا التاريخ الآن بأن الاستغلال الجنسي للأطفال بدأ في أروقة الكنيسة الكاثوليكية منذ خمسينات القرن الماضي، وإن كان العام 1985 هو تاريخ القضية الأولى التيتجتذب الأضواء عالميًا في هذا الصدد. وفي هذه القضية أقر القس غيلبرت غوته، من أبرشية لافاييت بولاية لويزيانا الأميركية، بالذنب في 11 تهمة تتعلق باستغلال الأطفال جنسيا. وكانت هذه بداية طريق صعب وطويل إذ اتضح أن تلك الممارسات laquo;شبه شائعةraquo; في الولايات المتحدة وآيرلندا وكندا، قبل أن يتضح أيضًا أنها تنتشر بقدر غير معلوم في السواد الأعظم من الدول الكاثوليكية حول العالم.

وفي ما يتعلق بالمحامي الأميركي أندرسون والعالم البريطاني دوكينز فإن الأمر لا يتوقف هنا، وإنما يطال بشكل مباشر الفاتيكان ورأسه البابا ومن أتى تحتهما من الكرادلة وكبار القساوسة. ويدفع المدعيان بأن هؤلاء لم يكونوا على علم، على الدوام، بممارسات بعض القساوسة في حق الأطفال وحسب، وإنما حاولوا التستر عليها بالامتناع المنسّق عن إبلاغها للسلطات (وأجهزة الإعلام بالتالي). وهذا على الرغم من أنها أعمال جنائية تتعلق باغتصاب القاصرين وإجبارهم على ممارسة الشذوذ الجنسي في وقت جهالتهم وعمق الجراح النفسية التي لا تبرأ بمر الزمن. ويشير المدعيان أيضا الى أن الفاتيكان ربما كان يخدع نفسه عندما تشبث بمقولة بعض الأطباء من أن علم النفس الحديث يمكن أن يغير من نوع ذلك السلوك عبر سبر أعماق النفسية بحثا عن الدوافع وتقديم النصح الشافي له.

وإن كان جليًّا أن كلا من الرجلين ينطلق من المبدأ الأخلاقي الذي يدين جريمة بشعة بأي من المعايير، فإن لكل منهما دوافع أخرى. فدوكينز (69 عامًا)، يتحرك من منطلق laquo;آيدلوجيraquo; يتعلق بشرعية الكنيسة نفسها. فهو ملحد وهب حياته العلمية لنقد الأديان، ومن أشهر مؤلفاته كتابه laquo;وهم الخالقraquo; (2006). وهو يتعرض فيهذا الكتاب لما يعتبره laquo;المغالطات المنطقية في المعتقدات الدينيةraquo; قائلا بغياب خالق للكون وإن الأديان بالتالي تقوم على مجرد وهم لا وجود له.

وعلى هذه الخلفية، إضافة الى الأخلاقية، أعلن دوكينز أنه كلف فريق محاميه السعي لاستصدار أمر قضائي باعتقال البابا، في الأغلب أثناء زيارته لبريطانيا في سبتمبر (ايلول) المقبل واستجوابه بشأن تستره المزعوم على الجرائم ومرتكبيها من قساوسته.

أما أندرسون (62 عاما) فينطلق من دافع laquo;شخصيraquo; حدا به كمحام للدفاع منذ منتصف الثمانينات عن آلاف الضحايا ونجاحة في الحصول على تعويضات يقول إنها بلغت في العام 2002 أكثر من 60 مليون دولار. أما البعد laquo;الشخصيraquo; في المسألة فيتمثل في أن ابنته، البالغة الآن، تعرضت، وهي طفلة في سن الثامنة، لاعتداء جنسي على يد طبيب كان يعالجها في وقت كانت الأسرة في خضم إجراءات طلاق اندرسون نفسه من والدتها. واتضح أن ذلك الطبيب كان قسيسًا كاثوليكيًّا في ما مضى. ولهذا فإن أندرسون يعتبر أن مشكلة استغلال الأطفال laquo;جزء لا يتجزأ من نسيج الثقافة الكنسية الكاثوليكيةraquo;، وأن الفضائح التي تزلزل هذه الكنيسة في الولايات المتحدة وغيرها تجد جذورها في الفاتيكان نفسه.

وإذا كانت مصداقية دوكينز تتأثر سلبًا بموقفه العام من الأديان وكونه ملحدا يسعى لنسف ما يعتبره laquo;أسطورة الإلهraquo; سواء بفضيحة كتلك أو بغيرها، فإن مصداقية أندرسون يعززها أنه laquo;مؤمنraquo; عاد الى حظيرة الدين بعد فترة إلحاد انتهت بكسبه معركة شرسة ضد إدمانه الكحول. ولهذا فهو يصبح في وضع أفضل لنقد الكنيسة إذ انه في مقام laquo;الشاهد من أهلهاraquo;.

ويقول محامو دوكينز بوجود السبل لإجبار البابا على الوقوف أمام القضاء تتمثل في تقديم شكوى للمحكمة الجنائية الدولية في هولندا سعيا لمحاكمة سرية أو علنية بتهمة ارتكاب laquo;جرائم ضد الانسانيةraquo;، أو برفع دعوى مدنية عليه في الإخفاق في ذلك.

على أن الأمر ليس بتلك السهولة. فالبابا رئيس دولة هي الفاتيكان، ولذا فهو يتمتع بالحصانة من المحاكمة. ويرد فريق المحامون على هذا بالقول إن البابا laquo;لا يتمتع بحصانة دبلوماسية من المحاكمة كرئيس دولة لأن الفاتيكان يتمتع فقط بوضع مراقب دائم في الامم المتحدة ولكن ليس بالعضوية الكاملة وحقوق التصويتraquo;.

لكن هذه نفسها مسألة يزيد الى تعقيدها أن البابا ليس رئيس دولة عاديا. فهو أيضا رأس الكنيسة الكاثوليكية، ووقوفه أمام القضاء يعني محاكمة هذه الكنيسة بأكملها على يد سلطة laquo;دنيويةraquo; هي القضاء. وأضف الى ذلك أن طلب المحاكم الرؤساء لا يعني تلقائيا الحصول على مرادها. فالرئيس السوداني عمر البشير مطلوب لدى محكمة لاهاي بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية. لكنه يشرف اليوم على تمديد عمره الرئاسي بالانتخابات التي يجريها في بلاده. بل انه راح يتنقل، منذ إصدار الأمر بمثوله أمام المحكمة، خارج البلاد من قمة عربية لأخرى افريقية كما حلا له.

لكن، في آخر المطاف، يصح القول إن دوكينز وأندرسون وغيرهما من الضحايا والمنتقدين كسبوا القضية ضد الفاتيكان والبابا حتى قبل - وبغض النظر عن - وصولها الى المحاكم. ذلك لأنها في المقام الأول laquo;دعوى إعلاميةraquo; الغرض منها تسليط أكبر قدر من الضوء على تخاذل الفاتيكان في حماية الضعفاء، وعلى أن البابا نفسه laquo;مذنبraquo; ويتحمل شخصيا المسؤولية كاملة. وهذا ليس لأنه تستر على القساوسة عندما كان كبيرهم وكاردينالا في ميونيخ وحسب، وإنما باعتباره laquo;رب الدارraquo; الكاثوليكية الآن ولم يحرك ساكنًا لتنظيف بيته من الوسخ