يتجه الشعب التركي إلى صناديق الاقتراع في 12 ايلول- سبتمبر للإدلاء برأيه في تغيير مواد الدستور أو تعديلها وبذلك تنفتح صفحة جديدة في تاريخ النضال السلمي الديمقراطي للقوى السياسيّة للتخلص من هيمنة المؤسسة العسكرية.

أسست الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية إثر حرب التحرير التي تم بموجبها تحرير أراضي تركيا الحالية، والتي كانت تحتلها جيوش اليونان من قبل، وبعد توقيع العديد من المعاهدات الدولية لتثبيت الحدود الحالية للجمهورية بينها وبين الدول الحديثة والمنتدبة كسوريا والعراق وغيرها.

والمعلوم أن الإمبراطورية العثمانية كنظام دولة لم تكن قومية إلا في سنواتها الأخيرة إثر انتشار الأفكار القومية بين الشعوب الخاضعة للإمبراطورية، ومن ضمنهم طبعًا الأتراك أنفسهم. تلك الأفكار القومية أخذت طابعًا تجديديًّا وعلمانيًّا تارة وإصلاحيًا تارة أخرى. المنتقدون لتلك الأفكار اليوم يرون فيها تسوّسًا لنخر هيكل الإمبراطورية العثمانية كسياسة اعتمدتها بالدرجة الأولى الدول العظمى الاستعمارية آنذاك، ويعنى بها quot;بريطانياquot; و quot;فرنساquot;.

هذا الإرث القادم من الماضي أي التعاون بين القوى القومية وبريطانيا أدى إلى اندلاع معارك طاحنة في الحجاز واليمن والعراق وسوريا ولبنان وشرقي نهر الأردن، حيث كانت إحدى نتائجها المباشرة انهيار وتفتت الإمبراطورية العثمانية وانقسام شعوبها إلى دويلات تحت الانتداب، لاسيما وقد استقلت لاحقًا مكونة الخارطة الجيوسياسية الحالية للمنطقة.

هذا العرض التاريخي السريع لا يأخذ بالاعتبار التكوين الثقافي والعقائدي لشعوب المنطقة، لذا نرى بان رجال السياسة من البريطانيين والفرنسيين تركوا أمورًا كثيرة من دون أن يتمكنوا من تقديم حلول ناجحة لمشاكل شعوب المنطقة. هذه المعضلات نراها اليوم كثقوب الجبن السويسري في المنطقة وكقروح لا تعرف الشفاء. خصوصًا وقد عالجت الموضوع مرات متعدّدة سابقًا تحت عنوان quot;بقضية العصرquot; متضمنا تحليلا للقضية الكورية كاحدى أهم قضايا المنطقة التي تحتاج إلى التفاتة دولية لتسوية عادلة وسلمية تأخذ بالاعتبار المساواة في جميع مسارات العملية السلمية الحوارية كحق طبيعي للشعوب في تقرير مصيرها من دون أي هيمنة لسلطة أو كيان سياسي quot;حزب سياسي أو نظام حكمquot; وتحت رعاية دولية وبما تنص عليه الاتفاقيات والمواثيق الدولية.

إن مجرد تسمية جميع تلك الحركات والنضال السياسي للشعب الكردي واتهامها بالإرهاب خطأ كبير تشارك فيه مؤسسة الدولة والإعلام والمؤسسة العسكرية و الاستخباراتية. من المؤكد أن إطلاق تلك التسمية تأتي من ضرورات آنية، وقصر نظر تشارك في نشر الفتنة بين أبناء الشعب وتؤثر سلبا على الوئام والسلم الاجتماعيين.
وقد خرج جموع الاكراد في تظاهرات سلمية في مدينة بنكول وفي الجنوب أي في لواء الاسكندرونة ذي الغالبية العربية جرت كذلك تظاهرات سلمية في مدينة هاتاي حيث خرج جموع الاكراد في تظاهرة سلمية استغلت تلك الحوادث من قبل أطراف مستفيدة ومستغلة تلك الحوادث في نشر الفوضى وخلط الأوراق. بالطبع لا يمكن إطلاق كلمة ( الإرهاب ) جزافا وتعميمها على أي ممارسة ديمقراطية وتطبيق عملي للحقوق التي تضمنها الدول الديمقراطية لمواطنيها. ان المجتمع الذي يؤمن بالنظام الديمقراطي وحرية التعبير لا يمكن ان يطلق نعوتا سلبية حاقدة على عشرات آلاف من مواطنيه من الأكراد الذين نزلوا محتجين سلميًا إلى الشوارع مشعلين بذلك فتيل الفتنة والحرب الأهلية لا سامح الله.

في اوروبا اليوم خارطة سياسية جغرافية شبيهة بتلك التي كانت عشية الحرب العالمية الأولى، ولكن بفارق كبير يتجلى في منظومة دول الاتحاد الأوروبي. تلك المنظومة الشبه متكاملة والسلمية وجدت حلولا لمجمل مشاكل القارة الأوروبية وشعوبها، وبطرق سلمية خاصة بعد انهيار جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة. من المؤكد بأن أي تحليل عقلاني وعلمي للوضع الأوروبي وإيجاد تناظر بين الحالتين، الشرق والغرب غير وارد على الأقل في الزمن الحاضر، ليس فقط للنضوج الفكري الثقافي والاقتصادي والعلمي لشعوب أوروبا اليوم فحسب لا بل لوجود الإرادة والنوايا الصادقة لشعوب وقوميات أوروبا وأحزابها السياسية ومنظماتها المدنية. كل ذلك أدى إلى التقارب بين الشعوب رغم ماضيها الدموي وحروبها ونزاعاتها خاصة الحربين العالميتين ناهيك عن وجود اختلافات عرقية وطائفية عقائدية وثقافية وبيئية انعكست على مجمل الصورة الذهنية لأبنائها. تلك الانعكاسات نراها واضحة وتتجلى في وجود لغات مختلفة وأعراف وعادات وثقافات متباينة.

وقد تمّتأسيس الجمهورية عن طريق خوض ضمار حرب التحرير وذلك لتحرير اراضي جمهورية تركيا الحالية. ذلك الجيش الذي كان يجمع بين أفراده وقواته ابناء قوميات تركيا المختلفة، وقد سقط من أبناء تلك القوميات المختلفة آلاف الشهداء في سوح القتال. لا ريب أن مجمل الحركة التحريرية تمت بالانطلاق من الأناضول وبمشاركة فعالة من أبناء القوميات الغير تركية. الجيش تحول في ما بعد العمود الفقري للمؤسسة السياسية للدولة الحديثة، ومن ثم، وبعد بزوغ الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الأولى تحول النموذج الأميركي نموذجًا يحتذي به الجيش التركي ولحد يومنا هذا.

لا بد أن نذكر بأن العنف والشدة يعتبران أمرين متجذرين في القيم العسكرية التركية منذ أن خطت جيوشهم جبال الأناضول، ومرورا بتأسيس الإمبراطورية العثمانية وانتهاء بالجمهورية. لقد سن الدستور التركي على أساس إعطاء مهمة الرقابة والحفاظ على مؤسسة الدولة وتركيبها للجيش. هذا المبدأ أساسا مخالفا لمبادئ الدول ذات النظم الديمقراطية. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أدى استخدام العنف من قبل المؤسسة العسكرية كمبدأ لحماية الجمهورية إلى انقلابات عسكرية عانت منها الجمهورية الفتية وأبنائها، ناهيك عن صبغ الدستور وسنه على أسس قومية ضيقة ومبادئ الشمولية والهيمنة على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى العسكرية نفسها. إذ تنص المادة 35 من النظام الداخلي للجيش على الفقرة التالية: quot;إن مهمة المؤسسة العسكرية هي من اجل الحماية والحفاظ على الوطن والجمهورية التركية على ضوء أحكام الدستورquot;.

بينما أتت المادة 85 من قانون الخدمة العسكرية لتوضح، الكيفية، ما يعنيه مهمة الجندي في الحفاظ على الجمهورية التركية والذود عن الوطن مقابل الأخطار الداخلية والخارجية، وباستخدام القوة إذا دعت الضرورة إلى ذلك.

هذه الفقرة الأخيرة التي استخدمها جميع الانقلابين في تبرير سيطرتهم على مقاليد الأمور بعد انقلاباتهم.

الدستور الأخير للجمهورية سنه انقلابيي أيلول- سبتمبر عام 1980 بعد سيطرتهم على مقاليد الأمور في البلاد وبقي كل تغير في نصوصه رهن مراقبة وموافقة المؤسسة العسكرية تحت ذريعة الحفاظ على الجمهورية دون الالتفات إلى المؤسسة السياسية المنتخبة من قبل الشعب والذي باستطاعتها في جميع الدول ذات الأنظمة الديموقراطية تغيير فقرات ونصوص الدستور. تلك التغيرات الضرورية التي تتماشى مع روح العصر من تغير وإصلاح وتقدم، في حين نرى بأن محاولات العسكريين لم تنته بعد انسحابهم من الحياة السياسية، حيث نرى أن تبعات تدخلهم اليوم في جملة المحاكمات الجارية لرموز المؤسسة العسكرية من الضباط الذين حاولوا بين أعوام 2003 إلى 2004 اللجوء إلى أسلوبهم القديم.

إن محاولات القوى السياسية على الرغم من عدم وجود توافق وإجماع على فكرة تغيبر فقرات الدستور التي تؤهل المؤسسة العسكرية باستخدام الشدة تنعكس اليوم على الشارع التركي بين موافقين ومعارضين.

الحزب الحاكم والذي يقود البلاد اليوم تحت زعامة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان يقود حملة دعائية لتوعية المواطنين في كافة أنحاء البلاد بالتصويت quot;بنعمquot; للتغير بينما تقف المعارضة المتمثلة بالقوى القومية والعلمانية خاصة حزب مؤسس الجمهورية الغازي مصطفى كمال اليوم ضد رفض التغير. ويتمثل رفض الحزب في الأساس على تغيير المادة 15 من الدستور والذي بموجبه ستتمكن المؤسسة الحاكمة دفع العسكريين من الانقلابيين إلى قاعات المحكمة ومحاكمتهم. يبقى أن نعلم إن رئيس الحزب كمال كيليتشدار اوغلو لا ينفك من مهاجمة خصومه من السياسيين في حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيس الوزراء في جميع التظاهرات الجماهيرية التي شهدتها العديد من المدن التركية، فهو يدعو ناخبيه إلى رفض التغيير بتقديم تبريرات للناخب حول الحصول على الإجماع الوطني.

سيتوجه الشعب إلى صناديق الاقتراع في 12 ايلول- سبتمبر للإدلاء برأيه في تغيير أو تعديل مواد الدستور، وبالتصويت بنعم أو بلا للتغير، وبذلك تنفتح صفحة جديدة في تاريخ النضال السلمي الديمقوراطي للقوى السياسية للتخلص من هيمنة المؤسسة العسكرية، فهل يا ترى تكون الغلبة للقوة والشدة في الحكم أم تكون للتسامح والعقلانية؟