وسط الجموع الغفيرة التي غلب عليها التنوّع في كلّ شيء،في المناصب والطبقات، وحتّى في طريقة الملابس في مقبرة العود الشهيرة وسط الرياض، كان الجميع أقرب إلى الذهول من الحزن، وللصدمة من البكاء، في وداع الشاعر والأديب الكبيروفيقد السعوديّين غازي القصيبي.

الرياض: للحظات كان الجميع يتسابقون على كلّ من له علاقة مباشرة بالدكتور، يريدون أن يرووا ظمأ الأسئلة، كيف رحل حبيبنا من دون وداع يليق ومن دون سنوات أطول لن تضير دورة الكون شيئاً.

وكانت الأنظار مركّزة -عدا عن أبنائه- على وليّه الحميم ومدير مكتبه هزاع العاصمي الذي لا يكاد يلتقط أنفاسه ويستقبل العزاء وكأنّه شقيقه الأصغر، وحين سأله الصحافيّون ماذا حدث، قال إن (أبا يارا) كان حتى لحظاته الأخيرة يشكر الله على ما كتبه له.

وقال العاصمي وهو يسترجع لحظات المرض المتباينة بين القصيبي ومرافقيه في المشوار الأخير،quot;في أجواء اللحظات الأخيرة كان الخوف يحيط بالمرافقين والإيمان يتجلّى في أنفاس الشاعر المرهفquot;.
ويقول العاصمي أيضاً: quot;كان الراحل مريضاً في الولايات المتحدة الأميركية واتصلت به فتاة سعودية تقول بأن قطار الزواج قد فاتها وأحبت شابًّا بريطانيًّا مسلماً وترغب في الزواج به، ولأنّ الأنظمة والقوانين السعودية صارمة في زواج السعوديات من غير مواطنيهنّ، طلبت الفتاة منه التدخل لدى وزارة الداخليّة السعوديّة، فغالب القصيبي مرضه وأنهى معاناتها بعد شفاعة لدى وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، كان أيضاً يكتب رسائل شفاعة على فراش المرض موجّهة للملك عبداللهquot;. وأضاف مرافقه المخلص: quot;كنّا طوال الشهور الثمانية الأخيرة نزداد قلقاً كلّ ما ازدادت حالته سوءًا quot;.

وغنيّ عن القول إنّ العاصمي سرد الكثير من طموحات وزير العمل الذي ذهب عن الدنيا وهو يطمح في وظائف للعاطلين ووطن يخدمه أبناؤه في كلّ مناحيه، ونساء لا يتسوّلن الحاجة عند أبواب الجمعيّات الخيريّة، والكثير من الخطط المعلنة وغير المعلنة قبل المسمار الأخير.

وعندما يأتي ذكر الجمعيات الخيرية وما يتعلّق بها فلا يمكن الإسهاب من دون إشارة سريعة تشبه مرور الراحل الكبير في ذاكرة محبّيه عندما أعلنت وفاته، فالقصيبي لا تكاد تذكر جمعية خيرية في السعودية من دون أن يكون له قدم سبق فيها، ولوحة الشرف في جمعية إنسان حفر عليها اسمه إلى الأبد وهي المشروع الخيري الرائد والمتفرّع مؤسّسيًّا على طول البلاد السعودية وعرضها، ومع ذلك فإنّ ريع كلّ كتبه وإصداراته تتحوّل أوراقها إلى ريالات حيّة في خزائن الجمعيات.

عن روايته الشهيرة quot;شقة الحريةquot; قال غازي إن أي محاولة لتشخصيها نوع من العبث، وعن كتابه الأكثر مبيعاً والمعاد طبعه أكثر من عشرين طبعة quot;حياة في الإدارةquot; يقول بأنّها لا تمثل سيرة ذاتية كاملة على أمل أن يتمكّن منها يوماً ما، وظلت غزارة إنتاجه حتى بعيد وفاته من دون أن يقول للناس عن نفسه أكثر من أي وقت مضى.

والناس ينتظرون إن كانت قصة quot;الزهايمرquot; التي من المقرر إطلاقها الخميس المقبل هي آخر الحبر في قلمه، أم أن جراب الحاوي ما زال في وسعه نعي بأثر رجعي، وهذا على المستوى الأدبي، أما على مستوى الإنجاز فقال في كتابه quot;حياة في الإدارةquot;: quot;لقد حاولت في كل موقع شغلته أن أخدم مواطني بكل طاقتي. خدمت أبناء هذا الجيل أما أبناء الأجيال القادمة الذين لن يتاح لي شرف رؤيتهم أو خدمتهم فلا أستطيع أن أقدم لهم شيئًا سوى قصة هذه الخدمة مصحوبة بكثير من المحبة وكثير كثير من الدعاءquot;.

في محطّات القصيبي العملية في السعودية اختلفت النظرات حوله حتى قال أحدهم في نهاية المطاف: quot;إنّ القصيبي لا يكرهه إلاّ الشيخين! أما من هما الشيخان فهما شيخ التطرّف الديني، والآخر شيخ المالquot;.

في كلّ النظرات التي استرقت من عرضه أو دافعت عنه طوال تسلمه مناصبه الوزارية الأربعة الصحة و المياه والكهرباء والعمل أو سفارتيه الاثنتين (البحرين وبريطانيا)، كان الثابت الوحيد هي وطنيته الطاغية، وجرأته في ما يؤمن به، وذلك بالضبط ما ينطبق على قصيدة quot;رسالة إلى سيف الدولةquot; التي كلفته كرسي وزارة الصحة السعودية في العام ١٩٨٤، أو ما كلفه منصبه سفيراً في بريطانيا حين نشر قصيدة تمتدح الفدائية الفلسطينية آيات الأخرس في العام ٢٠٠٢، وما بينهما خسارات ومطبات كثيرة ثبت فيها، إن كان مع النخب العربية حينما حارب بقلمه مع قوات التحالف ضد جيوش الرئيس العراقي الراحل صدام حسين التي ابتلعت الكويت في أغسطس ١٩٩٠، وألف حينها كتابه الشهير quot;أزمة الخليج: محاولة للفهمquot;، أو ما كان مع نخب أخرى حينما ترشح لمنصب رئاسة quot;اليونسكوquot; في العام ١٩٩٩ وخسر لصالح الياباني كوشيرو ماتسويرا، وأصدر حينها كتابه quot;دنسكوquot;.

هل يمكن الحديث عن غازي القصيبي ولا تذكر البحرين؟

مراتع صباه التي ذهب لها من الإحساء يتيم الأم وتلقى تعليمه الأولي فيها، ستشهد العزاء منذ يوم الاثنين في منزل عائلته، فبعد عزاء قصير تلقّاه أبناؤه سهيل وفارس ونجاد في جامع الإمام تركي في العاصمة الرياض ثم في مقبرة العود الشهيرة، ضربت الأنباء موعداً في البحرين لتلقي العزاء الأخير.

وللبحرين في نفس القصيبي ما للحبيبة في قلب المتيم، شهدت على ذلك قصيدته إبان ربطها بالسعودية عبر جسر بحري في نهاية العام ١٩٨٦م، وحينئذ كان أكثر الناس فرحاً وطارت قصيدته ملء الآفاق (ضرب من العشق لا درب من الحجر... هذا الذي ساق الواحات للجزر).