لا شك في أن الإدارة التركية قد باتت في الآونة الأخيرة تلفت أنظار العالم قاطبة والعالم العربي على نحو خاص جراء سياساتها في إدارة الأزمات التي نشأت بين أنقرة وتل أبيب. وجدير بالملاحظة أن أخر مرة رفعت فيها أعلام تركيا عبر شوارع عواصم الشرق الأوسط كانت خلال الحرب العالمية الأولى دعماً للسلطان العثماني الذي أعلن الجهاد وقتها ضد القوى الغربية.
واشنطن: بفضل سياسات الحكومة التركية الداعمة لفك الحصار المفروض على غزة أصبح لا يوجد زعيم عربي له شعبية مثلما يحظى رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان. ومن المعلوم أن الدور الوسيط يتطلب أن يكون ذلك هناك علاقة طيبة مع جميع الأطراف المتنازعة وأن يكون موضع ثقة لدى الكافة.
وقد استطاعت تركيا القيام بذلك على امتداد سنوات حكم حزب العدالة والتنمية إذ حافظت على علاقاتها الطيبة مع الشعب الفلسطيني كما احتفظت على الجانب الأخر بعلاقاتها الطيبة مع إسرائيل وذلك على كافة المستويات والأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية. وقد قام المسئولون من الطرفين بزيارات متبادلة على أعلى مستوى مما مكن تركيا من أن تكون محل ترحيب للقيام بالوساطة بين سوريا وإسرائيل.
وجدير بالذكر، أن تركيا عضو في حلف الناتو منذ فترة طويلة وهي أقرب صديق لإسرائيل في العالم الإسلامي. وهناك روابط وطيدة بين القوات العسكرية للبلدين والحكومات. غير أن العلاقات بين البلدين قد بدأت في التدهور خلال الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، وهو ما تبلور إبان المشادة الكلامية العلنية بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا والذي عقد في كانون الثاني 2009. وذلك عندما قوطعت انتقادات إردوغان للأعمال الإسرائيلية ولم يسمح له باسترسال حديثه مما تسبب في ضجة دولية كبيرة.
ورغم ما يشوب العلاقات من توتر بين البلدين إلا أنه من الملاحظ أن هذا التوتر ظل على المستوى اللفظي ولم يصل إلى جوهر العلاقات بين البلدين. فعلى الرغم من انتقادات إردوغان المستمرة للسياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني إلا أنه لا يزال التعاون مستمراً بين البلدين في الدفاع والاستخبارات. فعلى سبيل المثال، تم التوقيع على اتفاق بحوالي 165 مليون دولار حول الصور الاستخبارتيه المحمولة جواً عشية القصف الإسرائيلي على غزة.
كذلك واصل سلاح الطيران الإسرائيلي مهامه الخاصة بالتدريب في قاعدة التدريب في تركيا في قونيا. كما شاركت تركيا مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية في المناورة البحرية السنوية المشتركة التي تعقد سنوياً في أغسطس عام 2009.
ويلاحظ أنه على الرغم من التوتر الذي شاب العلاقات بين البلدين إثر تداعيات أزمة سفينة الإغاثة التركية وما نتج إثره من قتلى وجرحى أتراك إلا أنه لم تطلب السلطات التركية مغادرة السفير الإسرائيلي من تركيا. كما أن المحادثات بين وزير الخارجية التركي ووزير الدفاع الإسرائيلي قد أكدت على أنه لا تزال بعض القنوات الدبلوماسية مفتوحة. كما لا تزال المحادثات الهاتفية بين العسكريين من كلا البلدين مستمرة.
الدور التركي ومفهوم الشراكة النموذجية
يمكن القول أن تركيا والولايات المتحدة الأميركية أصبحا منافسين استراتيجيين- خاصة في الشرق الأوسط. وهذه نتيجة منطقية للتحولات التي شهدتها سياسات تركيا الخارجية والداخلية فضلاً عن التغيرات في النظام الدولي. ويلاحظ أن هذا الواقع مدفوع من الداخل بردود فعل تركيا الغاضبة إثر منع إسرائيل لأسطول السفن الذي نظمته اسطنبول والذي حاول كسر الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة. وقد أشار وزير الخارجية التركي أحمد داوود في هذا الصدد إلى الأعمال الإسرائيلية quot;كجريمة قامت بها الدولةquot; ويقصد بذلك إسرائيل.
ويلاحظ في هذا الصدد أن البيت الأبيض قد أكد بشكل واضح منذ البداية على أن تركيا تمثل أولوية لأوباما، الذي صاغ فكرة quot;الشراكة النموذجية model partnershipquot; بين البلدين. وهو ما يقوم على قيم مشتركة ومبادئ تهدف إلى تحقيق السلام والأمن والاستقرار والرفاهية الاقتصادية لمناطق الصراع في مختلف المناطق.
إلا أنه على الرغم من أن تركيا والولايات المتحدة الأميركية لديهما مصالح إستراتيجية متقاربة في تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ومكافحة الإرهاب والتطرف والحفاظ على الاقتصاد العالمي المفتوح وتأمين تدفق الطاقة والمضي قدماً في تحقيق الاستقرار والسيادة للدول في منطقة القوقاز وأسيا الوسطى، والحفاظ على علاقات مثمرة مع أوروبا. غير أنه عندما ننكب في التفاصيل نجد أن واشنطن وأنقرة لديهم غايات متعارضة في قضايا متعددة.
فعلى حين تسعى الولايات المتحدة الأميركية لتبقى القوة المهيمنة في المنطقة، وأن تظل مسيطرة على النظام السياسي الذي يجعل من السهل عليها أن تحقق أهدافها يلاحظ أن تركيا ترى الأمور على نحو مختلف. الأتراك يسعون فقط إلى ما يخدم مصالح أنقرة الإقليمية الخاصة. وإذا كانت السياسات تخدم الأهداف الأميركية في نفس الوقت فهو أمر جيد. إذا لم يكن ذلك فكذلك.
وجدير بالملاحظة أن هناك تداخل بين المصالح الأميركية والتركية في الشرق الأوسط. ففيما يخص الملف النووي الإيراني يلاحظ أن هناك مخاوف تركية حول رغبة إيران لامتلاك الأسلحة النووية ومن المحتمل أن تزيد هذه المخاوف حال توقفت أو فشلت المفاوضات الرامية إلى امتثال إيران مع قواعد ولوائح الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهو ما يعطي فرصة جديدة للتعاون بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا وخاصة في الدفاع الصاروخي.
وعلى صعيد الوضع في أفغانستان، فقد قدمت تركيا دعماً عسكرياً كبيراً لقوات حلف شمال الأطلنطي في أفغانستان إلى جانب مصادر قوتها الناعمة القيمة ودعمها للاستقرار والتنمية في أفغانستان. حيث تكن النخب والجمهور العام في باكستان احتراماً كبيراً لتركيا. وقد اضطلعت تركيا ببعض المبادرات الرامية إلى الجمع بين حكومات أفغانستان وباكستان للتوصل إلى مزيد من التعاون، والعلاقات البناءة، بما في ذلك الحوار بين الجمعية الوطنية الكبرى التركية والبرلمان في كل من أفغانستان وباكستان.
أما على صعيد الملف العراقي، تعارض تركيا بشدة نشر عدد متزايد من القوات الأميركية في شمال العراق، وهو ما تدافع عنه أميركا عن كثب. رغم أن تركيا قد حذرت من أن ذلك التحرك يقلل بشدة من إمكانية التعاون التركي مع الولايات المتحدة الأميركية ويفاقم من الضغوط في العلاقات الأميركية التركية.
فعدد قوات الأمن التركية التي قتلت في السنوات القليلة الماضية على يد حزب العمال الكردستاني قد شهدت ارتفاعاً ملحوظاً. وهو ما أدى إلى تزايد الضغوط الداخلية خاصة من جانب الجيش التركي الذي لا يزال يطالب بشن عمل عسكري من جانب واحد ضد حزب العمال الكردستاني.
وقد عزز فوز حزب العدالة والتنمية الكاسح في الانتخابات البرلمانية في 22 يوليو عام 2007 إردوغان على المستوى السياسي وأعطى له فرصة لالتقاط الأنفاس. ورغم ذلك فإنه لا يزال قد يواجه بالمزيد من الضغوط الداخلية للقيام بعمل عسكري منفرد ضد حزب العمال الكردستاني. فالقضية الكردية بشكل خاص يمكن أن تسبب خلافات جديدة. وكيفية تعامل الولايات المتحدة الأميركية مع هذه القضية سيكون محك أساسي في اختبار التحالف الأميركي التركي من وجهة نظر تركيا. فإذا لم تهتم الولايات المتحدة الأميركية بمخاوف تركيا بشأن حزب العمال الكردستاني فذلك سيكون له تأثيراً سلبياً على العلاقات الأميركية التركية بل أن التوجه ضد الولايات المتحدة الأميركية سيتنامى.
ومن ثم يمكن القول بأن تركيا لديها العديد من الأسباب والعوامل التي تدفعها لإقامة علاقات طيبة مع كلاً من إيران وسوريا فكلا البلدين لديهما مصلحة مشتركة مع تركيا لمنع ظهور دولة كردية مستقلة. من ناحية أخرى عززت تركيا روابط الطاقة مع إيران مما عزز الروابط بين البلدين. من هنا، فمن غير المحتمل أن تدعم تركيا السياسات الأميركية الرامية إلى عزل إيران وسوريا أو الإطاحة بالأنظمة الحاكمة لتلك الدول. بل من المحتمل أن تفضل إتباع سياسات ترمي إلى تشجيع الحوار الأميركي مع تلك الدول.
فالسلوك التركي كان يتسم بالهدوء إلى حد ما بشأن ادعاءات الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل حول نقل سوريا صواريخ سكود إلى حزب الله أو تدريب مقاتلي حزب الله على استخدامها في سوريا. والتساؤل الذي يثيره البعض في هذا الصدد هو ماذا ستفعل تركيا لو قامت إسرائيل بشن ضربة وقائية ضد هذه الصواريخ، التي يعتقد وجودها على الحدود بالقرب من وادي البقاع. أو لو قوات الدفاع الإسرائيلي نقلت المعركة إلى لبنان حيث يوجد 367 جندي تركي يخدمون في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب لبنان؟
وأياً كان السيناريو المتوقع فإن الصراع على الحدود الشمالية لإسرائيل تبدو احتمالات حدوثه مرتفعة. وفي هذا الإطار، يصعب احتمال أن واشنطن لن تؤيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس وهو ما يختلف عن المتوقع من أنقرة.
الموقف الأميركي من تداعيات أزمة أسطول الحرية
لا شك في أن اعتداء إسرائيل على أسطول الحرية قد وضع أوباما في مأزق الاختيار ما بين إدانة إسرائيل ومن ثم زيادة رصيده لدى العالم الإسلامي وبين الوقوف بجانب حق الحليف المحاصر ويقصد بذلك إسرائيل في الدفاع عن النفس.
وقد عقدت إدارة أوباما مشاورات مكثفة في هذا الصدد مع إسرائيل وتركيا من أجل نزع فتيل التوتر المتزايد بين الطرفين والحفاظ على علاقات ثنائية جيدة مع كل منهما. ورغم ذلك أثارت التعليقات الأولية للولايات المتحدة الأميركية غضب تركيا.
كما عملت الولايات المتحدة الأميركية على إعاقة جهود تركيا وغيرها من أجل تأمين إصدار بيان من مجلس الأمن يلقي اللوم على إسرائيل، ويؤيد في نهاية المطاف إدانة الأعمال التي أدت إلى جرح المدنيين وقتلهم. ففي حين دعت تركيا ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى إرسال بعثة تقصي الحقائق الدولية المستقلة، أيدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إجراء تحقيق إسرائيلي.
لكن الولايات المتحدة الأميركية على الجانب الأخر لم تمانع طلب تركيا بعقد اجتماع طارئ لمجلس حلف شمال الأطلنطي. ولا تزال تركيا تمارس ضغوطاً على الأمم المتحدة لكي يتم فرض عقوبات على الدولة الإسرائيلية جراء هجومها على سفينة الإغاثة التي كانت تحمل العلم التركي.
وقد أطلقت تركيا على الهجوم quot;المجزرةquot; لكن إسرائيل أصرت على آثر ذلك أنها كانت تستخدم حقها في الدفاع عن النفس. فعلى حد قول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتينياهو وفق ما تناقل في وسائل الإعلام الإسرائيلي quot;غزة دولة إرهابية تمولها إيران، ومن هنا نحن يجب أن نحاول منع أي أسلحة من إحضارها إلى غزة جواً أو بحراً أو براًquot;.
وقد تحدث البيت الأبيض عن دعمه لقرار مجلس الأمن الدولي الذي يطالب بالتحقيق في هذه الحادثة لكنه لم يشر إلى أي إدانة لأعمال إسرائيل في هذا الصدد. وهو ما أشار إليه وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو بعدم سعادته نتيجة هذه الاستجابة وأشار إلى أنه عمل إجرامي لابد من التحقيق فيه.
التعليقات