تحوّل ميدان التحرير في قلب القاهرة لأكثر الاماكن شهرة في مصر، حيث بات محجًّا ومسكنًا للمتظاهرين المطالبين بإسقاط النظام، لكن كيف يقضي هؤلاء يومهم؟ وكيف يستطيعون الحصول على طعامهم؟ وكيف يهتمون بنظافتهم الشخصيّة؟


القاهرة: الحياة في ميدان التحرير منذ الخامس والعشرين من يناير الماضي، لم يكن يعهدها أحد من قبل، حيث كان المكان مجرد معبر، يمر به المواطنون دون أن يطول وقوفهم فيه، فقد كان أكثر الميادين العامة التي تطبق فيها قوانين المرور بصرامة. وتتجول فيه الشرطة بلباس مدني ليل نهار، خشية إقدام أي مجموعة على التظاهر بداخله، فقد كانت أجهزة الأمن تنظر إلى الإحتجاج على أرضه باعتباره من أشد المحرمات وأكبر الكبائر، ويستحق من يفكر في ذلك الإحالة إلى مباحث أمن الدولة، والويل كل الويل لمن يدخل في دائرة عمل هذا الجهاز.

أما الآن فقد صار أكبر ميادين القاهرة هايد بارك يقصده المحتجون من شتى أرجاء الجمهورية، ويبيتون فيه، ويصرون على ألا يبرحوه إلا بعد أسقاط نظام الرئيس مبارك.

مع إنتصاف ليل القاهرة، تبدأ أعداد كبيرة من المتظاهرين في الرحيل، حيث يعودون إلى منازلهم، ليخلدوا للنوم في الأسرة الدافئة، بينما يبقى بعضهم الآخر في الميدان، مفضلاً النوم على النجيلة أو التراب أو الأسفلت، أسفل خيمة من البلاستيك أو الخيش أو الكارتون القديم. هذا وبعضهم الآخر لا تقل أعداده عن الخمسين ألف مصري يوميًّا، لم يبرح مكانه منذ نحو 15 يومًا، لكن يا ترى كيف يقضي هؤلاء يومهم؟ وكيف يستطيعون الحصول على طعامهم؟ وكيف يهتمون بنظافتهم الشخصية؟ وأين يقضون حاجاتهم؟

quot;إيلافquot; عاشت مع المحتجين 24 ساعة، للإطلاع على حياتهم، وكيفية تصريف أمورهم. مع الثالثة عصرًا موعد خروج الموظفين من أعمالهم، يبدأون في التوافد على الميدان، وفي يوم الثلاثاء الماضي، وفي ذلك التوقيت، وعند مدخل الميدان من ناحية كوبري قصر النيل، حيث ترابط دبابات الجيش، لاحظنا الكثير من الشباب والفتيات والأمهات، وهم يحملون في أيديهم أكياسًا تحتوي على أطعمة بسيطة، مثل علب الجبن، الحلاوة الطحنية، اللانشون، البسطرمة، الطعمية، أو بعض المخبوزات مثل الكيك، البقسمات، والباتيه، أو بعض الخضر والفاكهة مثل الطماطم، الخيار، البرتقال، اليوسفي.

كانت إحدى الأسر في طريقها إلى الميدان، وقبل الوصول إلي موقع التفتيش من قبل اللجان الشعبية التابعة للثوار، استوقفناها، حيث كان الأب يحمل أكياسًا تحتوي على علب من الجبن والخبز، وتحمل الأم كيسًا يضم برتقالاً، فيما يسير الأطفال رافعين العلم المصري، سألنا الأم، لماذا تحمل طعامًا؟ وهل ينوون المبيت في الميدان؟

فقالت: لا، لن نبيت، نحن جئنا للمشاركة في المظاهرات، ودعم المحتجين، حتى يتمكنوا من مواصلة النضال، لحين اسقاط النظام، ورأينا أن من واجبنا أحضار بعض الأطعمة لتوزيعها على من يعتصمون هنا، لأنهم يدافعون عنا جميعًا، ويطالبون بحقوق الشعب كله، ومن حقهم علينا أن نقف إلى جوارهم.

ولاسيما أن بعضهم حضروا للقاهرة من محافظات بعيدة، وتركوا أعمالهم، وليس لديهم أموالاً كافية لشراء الطعام. وحول تعرضها لمضايقات من الجيش، قالت: لا نتعرض لمضايقات، بل يسمح لنا بالدخول، وما إن نعبر الدبابات والأسلاك الشائكة حتى نسلم الطعام إلى لجنة النظام الخاصة بالثوار، ويتولى أعضاؤها توزيعها على زملائهم.

ليست تلك الوسيلة الوحيدة، لإمداد المحتجين بالطعام، ولكن هناك وسائل أخرى، منها جمع النقود من بعضهم البعض، لشراء ما يحتاجون إليه، ووفقًا لموريس سعد أحد المحتجين القادم من محافظة قنا، ويعتصم بالميدان منذ جمعة الغضب في 28 يناير الماضي، فإنه يقيم مع 12 شخصًا آخر، ويعتمدون على التزود بالطعام من خلال جمع النقود من بعضهم البعض، وشرائه من المحال التجارية والمطاعم، وعادة ما يكون فولاً وطعمية أو جبنًا.

وأضاف مازحًا: لم نتذوق طعم الكنتاكي أبدًا، ياريت التلفزيون المصري يدلنا أين يتم توزيع وجبات الكنتاكي لكي نحصل عليها. موريس مدرس مسيحي، استغل إجازة نصف العام، للمشاركة في الثورة، مؤكدًا أن الكيل قد طفح من الظلم، ومحاولات النظام لزرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، عملاً بالنظرية الإستعمارية القديمة quot;فرق تسدquot;، والدليل أنه كانت هناك العديد من وقائع المشاحنات الطائفية، والإعتداء على كنائس، أما الآن، وقد خلت الشوارع من الشرطة لم تقع حادثة إعتداء واحدة على مسيحي أو كنيسة.

هناك بعض المعتصمين المقتدرين ماديًا يتبرعون بإحضار الطعام، إنه كلام عصام جلال الدين مهندس ديكور، ويعتصم بالميدان، وأضاف بينما كان يتكئ على بطانية متهالكة، ويتغطى بأخرى، ويجلس إلى جواره أربعة من زملائه المحتجين أسفل خيمة من البلاستيك مثبتة على فروع الشجيرات النابتة وسط الميدان: لا نحمل هم الطعام أبدًا، فنحن نعيش يومًا بيوم، فمثلاً يعتصم في الخيمة المجاورة لنا رجل يمتك محلات أدوات كهربائية تعرض أحد أبنائه للقتل على يد ضابط شرطة منذ عدة سنوات، وقرر أن يشارك في الثورة ويدعمها حتى يتم اسقاط ذلك النظام البوليسي المستبد، ثأرًا لوفاة ابنه، وهو يحضر لنا بعض الطعام من منزله، ويرفض تقاضي أي مقابل، مؤكدًا أنه مدين للشباب الثورة، لأنه يري في كل فرد منهم صورة ابنه.

عندما يمارس الجيش والبلطجية التابعون للنظام أحيانًا التضييق علينا، ويحاولون منع تدفق الطعام لنا، يقوم السكان المقيمين في المباني المطلة على الميدان بكسر الحصار، حيث نرسل لهم النقود، ويشترون الأطعمة، ويسقطونها لنا في سلات من شرفات منازلهم. أما حاليًا فلم يعد هناك تضييق من قبل الجيش في دخول الأطعمة، والدليل إنتشار الباعة المتجوّلين في الميدان، الذين يأتون به حتى الخيمة، والكلام لجمال علواني شاب حاصل على بكالوريوس الإقتصاد والعلوم السياسية منذ أربعة أعوام، وهي أعلى كلية في مصر، ويفترض أن خريجها يعملون بوزارة الخارجية، لكن تلك الوظائف مقصورة على أبناء الصفوة فقط.

وأضاف جمال: quot;الميدان أنعش عمل المطاعم ومحلات السوبر ماركت الموجودة في منطقة وسط القاهرة، فغالبية المعتصمين هنا يشترون طعامهم منها، ثم طوروا من أنفسهم، وصاروا يرسلون بعض العمال بالطعام إلينا، فهنا تجد الكشري، وهو وجبة شعبية شهيرة، والخبز البلدي والشامي والفينو، والطعمية، وغيرها من الوجبات الشعبية، بالإضافة إلي الطعام المعلب أو المغلف مثل الشيبسي، والبسكويت، المخبوزات مثل الكيك أو القرص بالسمسم أو القرص بالعجوة، وزجاجات المياه الغازية والعصائر، والسجائر، وكروت شحن الموبايل، باختصار بات الميدان أشبه بمدينة مستقلة، تتوافر فيها جميع الإحتياجات.

ليست جميع الإحتياجات بالطبع، فالإنسان لا يحتاج إلى الطعام فقط، بل يحتاج إلى قضاء حاجته في مكان آمن، يحتاج للإستحمام، كيف يمارس المعتصمون تلك الطقوس الحياتية؟ وتأتي الإجابة على لسان أحدهم ويدعى عبدالعزيز مرسي خطيب بوزارة الأوقاف، بالقول: ليست هناك مشكلة، حيث يوجد مرحاض عمومي في ميدان عبد المنعم رياض القريب من التحرير، ويوجد آخر في ميدان باب اللوق القريب أيضًا من الميدان.

ويوجد كذلك مسجد عمر مكرم في الميدان، وهو مسجد كبير، ويضم مراحيض كثيرة بعضها للنساء وبعضهم الآخر للرجال، وهذه الأماكن يمكن قضاء الحاجة فيها والإستحمام أيضًا، فضلاً على أن أصحاب المحلات المطلة على الميدان يفتحون الحمامات الخاصة بها لنا من دون أدنى غضاضة. ويتابع مرسي: ليس الجميع يبيت ليله هنا، فالكثير ممن يترددون على الميدان من أبناء القاهرة، يعودون إلى منازلهم، للإستحمام وتبديل الملابس.

يبدو المشهد في ميدان التحرير وسط القاهرة باعثًا على التفاؤل في أن الثورة المصرية اقتربت من تحقيق أهدافها كاملة، وعلى رأسها تنحي الرئيس، على الأقل من وجهة نظر المعتصمين فيه. وحجتهم في ذلك أن عشرات الآلاف من المصريين يتدفقون يوميًّا إلى هناك، وبلغت الإحتجاجات ذروتها يوم الثلاثاء 8 فبراير الجاري، حيث تخطت أعداد المحتجين المليون ونصف المليون، للدرجة أنه لم يكن هناك موضع لقدم في الميدان على الرغم من اتساعه واستقطاع مساحات من الشوارع والميادين القريبة منه. وفي الميدان يلتقي المصريون الذين يعتبرون وقود الثورة، ويبيتون فيه.

فهل سيطول بهم المقام أم سوف تتدخل قوات الأمن أو الجيش لفضهم بالقوة، ولا سيما أن نائب الرئيس قال إن الحكومة لن تحتمل بقاء الوضع في ميدان التحرير على ما هو عليه طويلاً؟ أم أن قوة على وجه الأرض لن تستطيع إجبارهم على الرحيل، حيث أنهم يرفعون خيارين لا ثالث لهما: اسقاط النظام أو الموت في الميدان؟ الأيام المقبلة هي وحدها الكفيلة بالإجابة عن تلك الأسئلة؟