استمرارًا في المنحى الذي سلكته باريس تجاه الهجرة، صوّت البرلمان الفرنسي بغرفتيه لمصلحة قانون جديد للهجرة، بعد جدل سياسي نظرًا إلى رفض المعارضة، ومعها جزء من اليمين الحاكم إياه، بسبب مقاربة حادت عن التقليد الإنساني في التعاطي الفرنسي عادة مع الهجرة السريّة.
باريس: لم يكن من السهل على الحكومة الفرنسية أن تمرر قانون كهذا، لتقاطعه مع أحد أهم أشكال النبل الإنساني، الذي عرف به هذا البلد تجاه شريحة من المهاجرين لا تملك أوراق إقامة،وتعاني أمراضًا مزمنة في الوقت نفسه.
هذه الفئة من المهاجرين التي لا تحمل أوراق إقامة ظلت المستشفيات الفرنسية ترعاها بدون مشاكل تذكر، وذلك بعد أن تتم تسوية وضعياتها وتمكنها السلطات الفرنسية من بطاقة إقامة لسبب واحد، هو أنها مريضة، وتحتاج العلاج، إذ ظلت ترى أنه من واجبها العناية بها.
هذه الأريحية في استضافة الأجنبي المريض على التراب الفرنسي، أعطيت له من الحكومة الحالية مقاربة أخرى، عندما رفضت أن يستمر صندوق التأمين الاجتماعي في تأدية فاتورة علاج الأجانب من المهاجرين غير الشرعيين على أراضيها.
وهذا القانون لقي كل التنديد، وهو في طور الإعداد، سواء من المعارضة أو من طرف المنظمات الإنسانية والحقوقية. واتهمت الحكومة الفرنسية أنها تجري خلف اليمين المتطرف، الذي يعرف بعدائه للمهاجرين، وتسعى إلى نزع جزء مهم من المقاربة الإنسانية عن ملف الهجرة.
ويفهم من هذا القانون، بحسب مراقبين، أنه جاء quot;لتنظيم إقامة المهاجرين غير الشرعيين المصابين بأمراض خطرة...quot;، إلا أنه تم تقييده بشروط، مفادها أن المهاجر بدون أوراق إقامة، لا يرحل إلى بلده، إذا كان الأخير لا يوفر له العلاج المناسب لمرضه، كما أصبح يؤخذ برأي المسؤولين الإقليميين للصحة بموجب القانون.
قانون يشدد الخناق على المهاجرين غير الشرعيين
الشق الثاني في هذا القانون المثير للجدل هو تمديد فترة احتجاز المهاجرين بدون أوراق إقامة من يومين إلى خمسة أيام، والغرض من ذلك، بحسب أصحابه، تمكين الإدارة الفرنسية من الوقت الكافي لتسهيل عمليات الإبعاد، لأن 30% فقط من المهاجرين غير الشرعيين الموقوفين يتم طردهم نحو بلدانهم.
وزير الداخلية الفرنسي، الذي يتطلع إلى طرد أكثر من 28 ألف مهاجر سري خلال السنة الجارية، وصف هذا القانون في تصريح له، quot;بالشامل والمتوازن لسياسة هجرة فعالة وعادلةquot;، في حين هددت المعارضة بالطعن فيه أمام المجلس الدستوري.
ويتضح من هذا القانون أن الخناق يشتدّ أكثر ضد الهجرة غير الشرعية، وكذا محاربة الغش فيها، بسنّ قانون في هذا الإطار حول ما سمّي quot;بالزواج الرماديquot;، أي ضد كل أجنبية أو أجنبي تتلاعب بمشاعر فرنسي (ة) للحصول على أوراق الإقامة.
وهي حلقة أخرى في سلسلة قوانين تخصّ الهجرة، أقرّتها الحكومة الحالية، عادة ما تعطيها المنظمات المدافعة عن المهاجرين تفسيرًا سياسيًا، يسعى من خلاله اليمين إلى قطع الطريق على اليمين المتطرف ممثلاً في الجبهة الوطنية.
التقرير القنبلة
تزامن هذا القانون مع صدور تقرير برلماني حول الهجرة لنواب من اليمين واليسار، دحض العديد من الأفكار المسبقة حول الهجرة، سيما تلك التي عادة ما يرددها اليمين المتطرف بأن المهاجرين يكلفون الدولة ماليًا الكثير، وأوضح التقرير بالأرقام عدم صحة هذه الإدعاءات.
التقرير، الذي أطلق عليه تقرير quot;فحص سياسة الهجرة والإدماجوالتعاون الثنائيquot;، عكف على تحليل مضامينه 35 باحثا ومهنيا، أبرز أن الهجرة تدر على صناديق الدولة باختلاف أنواعها أكثر من 60 مليار يورو، مقابل ما يربو عن 47 مليار يورو، تنفقها فرنسا في الحماية الاجتماعية لمصلحة المهاجرين.
كما بيّن التقرير أن فئة المهاجرين لا يمكن الاستغناء عنها، وأي سياسة تتوخى الهجرة الصفر، بمعنى أن إيقاف تدفق المهاجرين نحو فرنسا سينعكس سلبًا على الاقتصاد المحلي، وكمثال على ذلك، يوضح التقرير، سيلزمها معدل نمو يصل إلى5% عوضًا من3% في أفق 2050.
وعن التعاونالثنائي، الذي تحاول من خلاله فرنسا مساعدة البلدان المصدرة للهجرة على أساس إبقاء الحالمين بالفردوس الأوروبي في أوطانهم، وذلك ضمن سياسة موازية لما تقوم به لمحاربة الهجرة السرية على ترابها، يفيد التقرير أن الوسيلة الفعالة لفائدة التنمية في هذه الدول هي تحويلات مواطنيها المقيمين في فرنسا.
وكانت النائبة الاشتراكية ساندرين مازوتيي أشارت إلى أن الأحكام الجائزة التي يروّجها البعض حول المهاجرين، دفعتها إلى طرحها في صيغة مجموعة من الأسئلة لتجد أجوبة لها، وكان من أهمها:quot;هل صحيح أن فرنسا تتعرض لاستقبال quot;كل بؤس العالمquot;، إن تراخت في مواجهة تدفق المهاجرين؟، هل صحيح أن الهجرة تكلف فرنسا باهظا؟quot;،quot;هل صحيح أن التنمية التضامنية قادرة أن تعوض بامتياز الهجرة؟quot;.
التوظيف السياسي للهجرة.. يمينًا ويسارًا
لا يشك المناضل الحقوقي أحمد دحماني في أن quot;سياسة الحكومة الفرنسية تجاه الهجرة أملتها ضرورة سياسية، وبالتحديد انتخابيةquot;، مذكرًا أنه quot;قبل وصول ساركوزي إلى الحكم، كانت الهجرة ضمن جدول أعماله، وعند وصوله إلى الإليزيه انتقلنا من الخطاب إلى الممارسة التمييزيةquot;.
وأشار في الاتجاه نفسه إلى quot;النقاش الذي خلق من حول الهوية الوطنيةquot;، وquot;الإشارة بالأصبع إلى أصول فرنسيين ينحدرون من أصول مختلفة من طرف حتى بعض الدوائر العليا...quot;، يقول منسق التنسيقية المغاربية لحقوق الإنسان، منبهًا إلى أن quot;الكارثة هي أن اليمين المتطرف بزعيمته مارين لوبان يجني ثمار سياسة من هذا النوعquot;، وهو ما قد يتسبب في quot;21 أبريل ثانquot;، بحسب قراءته.
وإن كان التقرير البرلماني الأخير حول الهجرة سيغير نظرة بعض السياسيين تجاه هذه الظاهرة، يفيد دحماني، إن quot;الأرقام التي تشير إلى عطاء المهاجرين اقتصاديًا وثقافيًا كثيرة، فقط إن المسؤولين الفرنسيين يحاولون إقناع الفرنسيين أن المهاجرين عبء على الاقتصاد والمجتمع الفرنسيين، علمًا أنهم يشتغلون ويستهلكون، ويساهمون في صناديق الدولة، ويؤدون ضرائبهم، ويشارك البعض منهم في إشعاع الثقافة الفرنسيةquot;.
وأضاف الأستاذ الباحث الجزائري الأصل: quot;المحللون الجادون والإستراتيجيون، سواء منهم الاقتصاديون أو السياسيون، يعرفون جيدًا هذه الأرقام، ويدركون ما تحمله الهجرة إلى فرنسا، لكنه محرّم الحديث في ذلك...quot;، ولا يعفي محدثنا اليسار من هذه المعادلة، فكلاهما، برأيه، أي اليمين واليسار، quot;يوظفان موضوع الهجرة لغايات سياسية مع بعض الاختلافات بينهما، لكن العمق يبقى نفسهquot;.
ويضرب أحمد دحماني مثالاً على ذلك quot;بالحق في التصويت للأجانب كما تطبقه الكثير من البلدان الأوروبيةquot;، موضحًا أن quot;الحكومات الفرنسية يسارًا و يمينًا ترفض إخراجه إلى الوجود، رغم بعض الالتزامات في الفترات غير الانتخابيةquot;.
ويعتبر دحماني أن quot;الإجراءات الجديدة التي وضعت لطرد المهاجر بدون أوراق إقامة والمصاب بمرض مزمن، استثنى الطبيب من العملية، ووضع قرار الإبعاد بيد الولاةquot;، وهو ما يراه quot;تراجعًا حقيقيًا للتضامن والإنسانية في فرنسا، وهذا ينبأ بمستقبل سيء للهجرة في فرنسا، بما فيها تلك التي توجد منذ أجيالquot;.
وأشار الناشط الحقوقي إلى تصريح وزير الداخلية الفرنسي، الذي دعا إلى quot;التفكير في تحجيم الهجرة عدديًا، بما فيها الشرعيةquot;، معتبرًا أن الإجراءات القانونية التي استهدفت الأجانب المرضى quot;إشارة مقلقةquot;، كما أضاف في السياق عينهأنه quot;على ما يبدو هي خطوة في دوامة، وعلى مناضلي حقوق الإنسان والجمهوريين والإنسانيين التنديد بها ومحاربتهاquot;، بحسب قوله.
التعليقات