يتفرد العراق منذ أقدم الأزمنة بأسواقه الشعبية التي تختلط فيها البضاعة المعروضة من قبل عطارين وبزازين وصاغة بالأخرى المصنعة من قبل نجارين وحدادين ووراقين، لتختلط فيها العطور والأبخرة بروائح التوابل، على وقع دقات الصفارين وهتافات الباعة، وهرج باعة السوق وجدال المزادات، وسط أكوام القمامة والانتيكا، وهو ما يكسب السوق العراقية نكهة شرقية مميزة، لاسيما في أسواق quot;الهرجquot; التي تعد من المظاهر المميزة في معظم مدن العراق.


إحدى أسواق الهرج العراقية

وسيم باسم من بغداد: منذ سنوات يفترش ابو حاتم الأرض عارضًا بضاعته في سوق في منطقة الميدان في الطرف الغربي من شارع الرشيد في العاصمة بغداد، وهي المنطقة التي ضمت بين أحضانها اشهر سوق في بغداد والعراق على الإطلاق وهي سوق quot;الهرجquot;.

ذاكرة العراق
رغم ان أبا حاتم عرف السوق منذ طفولته، الا انه لم ينضم الى فعالياته التجارية في البيع والشراء، الا بعدما تقاعد من وظيفته كمعلم.

ومن وجهة نظر ابي حاتم، فإن سوق الهرج على رغم انحسار الكثير من فعالياتها اليوم، الا انها تمثل ذاكرة بغداد، بل ذاكرة العراق، لما تحتويه من سلع وصور وتحف، تمثل كل منها مرحلة من تاريخ العراق، وتروي لك عادات وتقاليد الناس في ذلك الوقت، كما تنبؤك صور الملوك والزعماء الذين حكموا العراق، عن حالة البلاد السياسية في ذلك الوقت.

إضافة الى ذلك كله، فإن المعروض من السلع يمكن ان يدلك على الحالة الاقتصادية للمرحلة التي تعبّر عنها السلعة أو الصورة او الكاسيت. وانتشر هرج ساحة الميدان الى مناطق أخرى في بغداد، حيث وجد laquo;سوق الباب الشرقيraquo; أو laquo;سوق الخردة فروشraquo;، وفي العقود الاخيرة ظهرت سوق مريدي. إضافة إلى سوق laquo;الشعبraquo; في حي الشعب غرب بغداد، وأسواق أخرى كثيرة في بغداد.

ثقافة (الهرج)
امتد صدى سوق الهرج الى مدن العراق الاخرى منذ الأربعينات، حتى انتشرت ثقافة (الهرج) في كل أنحاء العراق. ويروي الباحث الاجتماعي سليم البغدادي انه مثلما كان الفقر والعوز من اسباب نشوء سوق الهرج في بغداد منذ عشرينيات القرن الماضي، الا أن سنوات الحصار والحروب منذ أواخر السبعينات ساهمت في انتعاش أسواق الخردة والمزادات.

وغالبًا ما تكون سوق الهرج، انعكاسًا للوضع الاقتصادي للعراق في كل المراحل الزمنية، ففي عام 1997 باع أبو رسول تلفزيون البيت في السوق لتوفير بعضًا من المال لإعالة أسرته. وتكرر الأمر نفسه معه عام 2005 حين وجد نفسه مضطرًا لبيع الكثير من المقتنيات والصورة لحاجته المادية أيضًا.

صور الزعيم
يتذكر انه باع في منتصف الثمانينات صور الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم (رئيس الوزراء في العراق من عام 1958 ولغاية 1963، وأول حاكم عراقي بعد الحكم الملكي)، وبصورة شبه سرية بثمن بخس لأحد البائعين. يتألم ابو رسول لذلك، لأن الصور كانت نادرة جدا، كما انها تمثل مرحلة مهمة مراحل تاريخ الحديث.

لا تخلو بضاعة سوق الهرج من quot;الغشquot; بحسب ابو رسول، فثمة من يصنع قطعًا من الحديد والنحاس، واللوحات الزيتية موحيًا بأنها قديمة عبر إضافة مميزات توحي بذلك، مثل لونها laquo;المطفيraquo; وكمّ الأتربة وتقادم الزمن على شكلها وألوانها، في محاولة لخداع المشترين الذين ينطلي عليهم الخداع في بعض الأحيان.

في سوق الهرج في الحلة (100 كلم جنوب بغداد) وبغداد بيعت في منتصف التسعينات - بحسب كامل الحسني الذي يتاجر بـ(الانتيكا) في سوق هرج الحلة وأسواق بغداد منذ السبعينيات - فإنه حتى علامة المرور التحذيرية والإرشادية بيعت في الاسواق لأنها مصنوعة من الحديد، مما يدل على العوز الاقتصادي الذي كان يمر به المجتمع، حيث بيعت جنبًا الى جنب مع الدراجات الهوائية والأثاث وأجهزة الراديو المستعملة.

تدوين تأريخ العراق
لا تخلو أسواق الهرج من السلع الثمينة والنادرة، فهذه الأسواق تحفل بالعجيب الذي تختلط فيه السلعة الثمينة بالبضاعة البخسة، وربما يجد المنقب في البضائع المعروضة الكثير مما يعد ثمينًا لقيمته التاريخية او الفنية، فمن التحف القديمة الى المواد المنزلية والكهربائية، والساعات والأحذية، الى العدد القديمة لأصحاب المهن، والطيور والمسابح والدراجات، إضافة إلى الصور التاريخية والملابس من مختلف المراحل الزمنية، كل ذلك يعكس لك صورة من المراحل الزمنية التي مر بها العراق تستحق الوقوف عليها.

ومثل مدن العراق الأخرى، فإن يوم الجمعة هو الموعد الأمثل لمرتادي سوق الهرج من باعة ومشترين، وزائرين، ذلك الكثير من الناس يقصدون اسواق الهرج، ليس لغرض البيع والشراء، بل للتجول والاستمتاع بالفعاليات المميزة والخاصة بهذه السوق وحدها، والتي يندر ان تجدها في الأسواق العادية.

وتشير المعلومات التاريخية إلى أن سوق الهرج في بغداد ترجع في تاريخها إلى عهد الدولة العثمانية، حيث شق الوالي العثماني ناظم باشا شارعاً سمّي باسم شارع (خليل باشا جاده سي) على اسم خليل باشا حاكم بغداد عام 1910، ثم سمي باسم شارع الرشيد، وسميت السوق باسم سوق الميدان، وهي التسمية العربية القديمة لها، وأقدم من التسمية التركية (سوق هرج)، والتي تعني الفوضى وعدم النظام.

الفولكور والاثار
تشبه سوق الهرج في الحلة، أسواق بغداد والمدن الأخرى بمرتاديه وفوضى البيع والشراء، وهتافات الباعة وجدالهم مع المشترين. يقول الحاج أبو حسين صاحب محل حلاقة يطل على جانب من سوق هرج، حيث بدا دكانه الذي لم يجدد أثاثه من عقد ونصف، هذا الدكان بدا تاريخيًا في مقتنياته والصور المعروضة فيه، بل حتى زبائنه الذين يتألفون من الرجال الطاعنين في السن.

يقول ابو حسين: سوق هرج في الحلة مثل بقية الأسواق المماثلة في انحاء العراق، هي ليست سوق الفقراء فحسب، رغم انهم يمثلون العمود الفقري لفعالياتها الاقتصادية، بل يرتادها الكثير من أصحاب الغنى والباحثين عن الفولكور وحتى الاثار والقطع ذات القيمة التاريخية.

وبحسب ابي حسين، فإن عمر السوق الذي يتجاوز المائة عام، شهد بيع الكثير من القطع ذات القيمة التاريخية، كما استغله البعض في القيام بأعمال منافية للقانون، فثمة الكثير من البضائع المسروقة في السوق، كما ان هناك سماسرة سريون لبيع المواد الممنوعة مثل الآثار، وتداول العملة المزورة.

هواة الآثار والتحف
في جانب من سوق الحلة، يعرض سليم وادي ثلاث صور تعود الى فترة الاحتلال البريطاني للعراق، وهو صور لجنود بريطانيين عند آثار بابل.
يقول سليم انه باع في العام الماضي صورًا نادرة جدا لعمليات التنقيب في بابل في العشرينيات، حيث باعها لشخص من بغداد.

يؤكد سليم ان الكثير من الأغنياء وهواة الآثار وجمع التحف واللوحات يعودون الى أسواق هرج في الحلة والمدن الأخرى يشترون بثمن بخس الكثير من القطع الفاخرة التي لا تقدر بثمن. وفي جانب من السوق، يفترش احمد كريم أعدادًا من ميداليات وأنواط الشجاعة التي وزعها نظام صدام حسين على الجنود والضباط ممن تميزوا في الحرب العراقية الإيرانية (1980 -1988).

الى جانب الأنواط، ثمة ساعات للبيع رسم على وجهها صدام حسين. ومازال الساعاتي ابو علي، يجد في تصليح الساعات والمتاجرة فيها رزقًا يسد به حاجته. ويؤكد سعدي الواسطي ان سوق الهرج في بغداد ومدن العراق الأخرى شهدت الى العام 2003 الكثير من الأعمال الفنية المسروقة من أعمال سيراميك، ولوحات لرسامين عراقيين.

تدوين تأريخ مدن العراق
تضم غالبية مدن العراق أسواق هرج لها طابعها الخاص، الذي يعكس تاريخ المدينة وحالتها الاقتصادية. ففي البصرة (545 كم جنوب بغداد)، تقاوم سوق هرج، التي تقع في مركز المدينة في سوق العشار، ويعود تاريخها الى أواخر العهد العثماني، زحف الزمن. اما سوق هرج الناصرية (375 كم جنوب العاصمة بغداد) الواقعة بالقرب من جسر نبي الله ابراهيم، فما زالت تستقبل النادر من الانتيكا والبضائع المختلفة.

وفي سوق quot;الهرجquot; في الديوانية (193 كلم جنوب بغداد) في مركز المدينة، مازالت (الجنابر والبسطات) تحتل المساحة الأكبر منها ويقصدها الناس من مختلف الطبقات.

ويقول رؤوف الكريطي، وهو دلال، ان السوق ليست مكانًا لبيع الأدوات المستعملة والأغراض القديمة فحسب، بل انها تعيد كتابة تاريخ المدينة عبر إعادة إحياء الكثير من اللوازم والتحف واللوحات التي كانت مركونة في البيوت. ويدعو الكريطي الى الإشراف على السوق من قبل مراقبين من الثقافة والفولكور لشراء القطع ذات القيمة التاريخية والفولكلورية وشرائها من مقتنيها، وجمعها في متحف خاص يؤسس لإعادة كتابة تأريخ المدينة.

خردة
وفي كركوك (240كم شمال بغداد) فان سوق الهرج الواقعة عند شارع الجمهورية بالقرب من شارع أطلس المنتهي بجسر (الشهداء)، مازال يتفرد ببيع البضائع المتنوعة التي كانت تسمى (خردة فروش)، فعلى جانبي السوق تمتلأ الأرصفة بالبضائع الجديدة والقديمة.

وبحسب الباحث في الفولكلور والجامع للتحف والمقتنيات القديمة على اللامي، فإن المناطق الشعبية والطبقات الفقيرة هي في الغالب مصدر هذه الاسواق الشعبية ذات النكهة المحلية المميزة. وبحسب اللامي، ففي الكثير من الحالات فان البعض يبيع قطعة ثمينة في حوزته، لاسيما كبار السن من دون ان يعرف قيمتها الفنية والفولكلورية، كما حدث معه يومًا حين اشترى من امرأة عجوز، قطع معدنية وصور ومسكوكات تعود الى عشرينيات القرن الماضي.