تقول غالبية القراء التي شاركت في استطلاع laquo;إيلافraquo; الأخير إن تهديد الأنظمة العربية الآيلة للسقوط بالبديل الأصولي هو مجرد حيلة للتخويف، بينما يرى الثلث الآخر أنها محقّة في هذا الزعم.
رسميبين نتائج الاستطلاع |
4866 قارئًا شاركوا في استطلاع laquo;إيلافraquo; الأخير المتعلق بربيع العرب وردّ فعل الأنظمة المعنيّة مباشرة به، وضمنيًا تلك التي ستغشاها الرياح على الأرجح.
ويطرح الاستطلاع مقولة تلك الأنظمة أن البديل الوحيد لبقائها هو الحكم الإسلامي المتشدد. ثم يطلب الى القارئ الاختيار بين احتمالين: الأول هو ما إن كان هذا القول مجرد فزاعة تنصبها الأنظمة لتبرير بقائها، والثاني ما إن كان جديّا ويجدر الأخذ به.
وأظهرت نتيجة الاستطلاع أن 3228 قارئًا، يشكلون نسبة 66.34 % من مجموع المشاركين، يأخذون بالخيار الأول، وهو بأن الأمر لا يتعدى كونه فزاعة وحسب. وفي المقابل قالت الأقلية، وهي 1638 قارئًا، يشكلون 33.66 %، إن تلك الأنظمة محقة في ما ذهبت اليه، لأن البديل الوحيد لها هو الحكم الإسلامي المتشدد فعلا.
الخيارات
بسبب غياب الديمقراطية تقليديا عن ثقافته، صار العربي خاضعًا لأحد نوعين من الحكم: المتوارث أو العسكري، الذي صار ينحو أيضًا إلى أن يصبح متوارثا. ولأن هذا الترتيب لا يتفق إلا مع المنتفعين مباشرة منه، ويقصي السواد الأعظم من الشعب، وأيضًا لأن الإنسان بطبعه لا يقوى على العيش مأمورًا بما بفعل وما لا يفعل أبد الدهر، صار محتمًا أن تصبح laquo;العدالة الإلهيةraquo;، هي المنكفأ والملجأ والبديل الوحيد. وبالطبع فقد حدث كل هذا بسبب الفشل الاقتصادي المريع والطغيان القاتل الذي أتى به حكام المنطقة وحرمانهم شعوبهم من أبسط حقوقها الإنسانية.
من الرمضاء الى النار؟
والواقع ان هذا الإحساس ظل يتعزز منذ أن تبدى للناس إخفاق التجربتين الاشتراكيتين (القومية العربية والبعث) في الإيفاء بوعد الرفاه الاقتصادي القادر على سد الباب أمام السلفية الدينية بعدما نجحت ndash; بالدبابة - في دك حصون الملكية على الأقل في مصر والعراق ولاحقا ليبيا.
النموذج الإيراني...
مع استتباب الأمور للثورة الإيرانية على الشاه، تنبّه الإسلاميون العرب الى أن عودة الحكم الإسلامي ليست حلمًا بعيد المنال. وهذا أمر تبدت علائمه في ما سُمّي laquo;الصحوة الدينيةraquo; التي انتظمت المجتمعات العربية في ما بعد مع نهوض laquo;النموذج الإسلامي الإيرانيraquo; الصالح كنظام سياسي واقتصادي وقانوني واجتماعي قادر على إقامة مؤسسات الدولة البديلة. بن علي
ورغم أن الثورة الإيرانية نفسها راحت تنزلق أكثر فأكثر في هاوية الدكتاتورية الدينية، فقد كان كافيًا بالنسبة إلى الإسلاميين العرب أنها أشعلت جذوة الأمل في إقامة الدولة الإسلامية.
في خضم هذا المزاج الجديد راحت مظاهر laquo;التمدّن على الطراز الغربيraquo; تتوارى أمام زحف الرموز الإسلامية، وخاصة على الجبهة النسوية، فكأنها المعركة التي تحسم الحرب. وعلى سبيل المثال صار المألوف في الشارع العربي هو الحجاب ثم النقاب بدلاً من الفستان والبلوزة والتنورة وبنطلون الجينز والـlaquo;تي شيرتraquo;.
وتوسعت رقعة المساجد حتى ابتلعت المراقص، وصار من غير الممكن في القرن الحادي والعشرين عرض أفلام عربية صُوّرت في منتصف العشرين الا بعد حذف العديد من مشاهدها لأنها عبارة عن عناق وقُبَل أو ممثل يرقد على سرير النوم الى جانب ممثلة. ووصلت تشعبات laquo;الصحوة الإسلاميةraquo; إلى حد تهيئة التربة لنظام مثل طالبان المغالي في الحنين الى الأيام الخوالي وتأويله الخاص لها الى درجة حرمان النساء من العيش كبشر وطلاء زجاج النوافذ بالأسود إكمالا لعزلتهن.
... والنموذج التركي
في الجهة المقابلة تعتبر تركيا اليوم نموذج الدولة التي فندت الى حد كبير الحجة القائلة بتعارض الإسلام والحداثة، وهذا laquo;بالرغمraquo; من حكم laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; الإسلامي تبعًا للبعض وlaquo;بسببهraquo; تبعًا للبعض الآخر. لكن هذا أتى بفضل مصطفى كمال اتاتورك، الذي قبر مفهوم الخلافة تحت أنقاض الامبراطورية العثمانية، وأقام دولة على النمط الغربي تدين أيضًا بالإسلام المعتدل.
إحدى المفارقات المتعلقة بأن تركيا الحديثة لم تصبح القدوة في دول المنطقة العربية هو أن الاستعمارين البريطاني والفرنسي وقفا حائلا وقتها دون تدفق بقايا laquo;الأثر العثمانيraquo; الى هذه الدول. ومصدر المفارقة بالطبع هو أن هاتين القوتين الاستعماريتين السابقتين تتمنيان الآن لو كانت الديمقراطية الإسلامية على طراز تركيا الحديثة تحظى بالدور الرئيس على خشبة المسرح السياسي العربي.
ومن المثير للانتباه أن سوريا صارت اليوم ساحة للنزال بين القوتين الإسلاميتين العظميين المتنافرتين والمتسابقتين الى بسط نفوذهما في المنطقة، وهما ايران وتركيا. فهذه الأخيرة، إضافة الى نواياها التي تبدو صادقة في ما يتعلق بحقوق الإنسان، بدأت تتنبه الى أن عليها أن تمعن النظر في مسألة تحالفها مع الشارع العربي ndash; بدءا بسوريا وأيضا غزة - وما إن كان هذا أفضل لها على المدى البعيد من صداقتها مع إسرائيل. أما إيران بدعمها الشرس لنظام الأسد
فقد ألقت علينا درسا بحاجة الى مقالة منفصلة وهو أن الطائفة أقوى من الإسلام نفسه. معمر القذافي
أصولية
كان طبيعيا أن تتحول الشكوى العربية من الدكتاتورية التي حلّت بها في حقبة ما بعد الاستعمار الى رجاء في السماء. بل يمكن القول إن الثورة الإسلامية الإيرانية نفسها ما كانت لتحدث لولا أن الشاه العلماني ndash; في استعجاله ثمار laquo;الثورة البيضاءraquo; التي كان يهدف من ورائها إلى وضع بلاده في مصاف دول الصدارة العالمية ndash; قرر أن الدين نفسه هو حجر العثرة الأكبر على ذلك الطريق.
وكان ذلك الرجاء مبرر الدوافع. فقد غاب النموذج الإسلامي التركي باعتباره وليد ثقافة جديدة غربية التوجه، وغابت الديمقراطية الليبرالية لأنها تتنافر بشدة مع laquo;الثقافة العربية التقليديةraquo;، وساد حكم الفرد الذي أفرزته هذه الظروف على مر العقود، وفشلت الأنظمة الحاكمة القديمة والجديدة في تحقيق طموحات الناس الى الحياة الكريمة.
وقد تضافر كل هذا مع غياب التعليم الحقيقي (بمعنى تنوير النفس بالمعارف الشاملة) والافتقار بالتالي الى العقل الفلسفي وثمراته كالقدرة على التحليل والنقد الذاتي والأخذ والعطاء الفكريين. وهكذا صار الرجاء في السماء مقرونًا بالغضب الباحث عن مشجب. ولم يطل البحث عن بديل لهذا الوضع فصار الخطاب السائد هو أن الخلاص هو الرجوع الى الأصول. الأسد برفقة حليفه الايراني احمدي نجاد
هكذا ولدت الأصولية من صلب اليأس. ولكن لتلك الأسباب التي استدعت البديل نفسها، كانت مسألة وقت أن تتحول الى بخار تحت غطاء القِدْر المحكمة الإحكام... وكلنا يعلم أن البخار لا يظل حبيسًا الى الأبد، فخرج ليدمر يمنة ويسرة وبدون تمييز بين العدو والصديق وصار منطقيًا أن يصبح الإرهاب أهم أدواته.
هكذا صارت الديمقراطية بعبعا
التخويف من الأصولية صار ايضا تخويفا من الديمقراطية والعكس صحيح. وفي تجربة الجزائر 1991 والحرب الأهلية المريعة التي أفرزتها المثال الساطع على هذا. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن شهد العالم تحولا يتخذ محوره في الإسلام وبشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث. فصار المسلم في عين العالم هو الإرهابي والإرهابي هو المسلم. وحتى عندما صار الأصوليون المسيحيون يرتكبون أفظع الجرائم الوحشية ndash; على غرار ما حدث في النروج أخيرًا ndash; وجدت أن أصابع الاتهام تشير فورًا الى الاتجاه laquo;المألوفraquo; إلى أن تتضح الرؤية، ويثبت أن laquo;المتهم المعتادraquo; ليس هو الجاني حقا.
من المقصود؟
لا دهشة إذن أن الحكام العرب الآيلين الى السقوط (كدفعة أولى تتبعها البقية عاجلا أو آجلا) وجدوا في هذا الوضع المأسوي ضالتهم المنشودة. فصاروا يلوحون بخطر الأصولية في حال ذهابهم. مبارك
وربما كان الأهم من أن ثلثي القراء المشاركين في استطلاع laquo;ايلافraquo; يعتقدون أن خطر الأصولية مجرد فزّاعة ترفعها الأنظمة لتبرير بقائها وأن الثلث الباقي يعتقد أن التهديد جديّ ويجدر الأخذ به، هو الطريق الذي يقود اليه سؤال الاستفتاء نفسه وينتهي بسؤالين فرعيين ولكنهما في غاية الأهمية: الأول هو: لماذا تهدد الأنظمة العربية الآيلة للسقوط ببديل أصولي؟ والثاني: ما هي الجهة المفترض أن يكون هذا التهديد موجّها لها قبل أو أكثر من غيرها؟.
الحاكم العربي لا يوجه هذا التهديد الى ساحته الداخلية لأنه لا يحترم شعبه في المقام الأول، ولا يكلف نفسه الشرح بفضل أن ماكينته الأمنية توفر عليه هذا العناء. المقصود بالدرجة الأولى هو الغرب الذي ظل يعيش، منذ هجوم 9/11 الإرهابي الأسوأ في التاريخ الحديث، حالة هلع غير مسبوقة من الإرهاب الأصولي الإسلامي. وفي معرض رد فعله غزا أفغانستان لاستضافتها قيادة القاعدة، والعراق لأنه اتهم صدام حسين بامتلاك أسلحة الدمار (الإسلامي) الشامل.
وانتهك سيادة أراضي باكستان حليفته في حربه على الإرهاب لينفذ حكم الإعدام بحق أسامة بن لادن. فكيف يأمن الحاكم العربي شر الغرب المستطير إذا لم يقل له إنه
صمام الأمان بينه وبين الأصولية الإسلامية؟ علي صالح
لكن laquo;ربيع العربraquo; جاء كأفضل مثال على سقوط هذه الورقة. زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح ومعمّر القذافي، وبشار الأسد هم تلك الدفعة الأولى... وفيهم من رفع راية التصدي للإسلام الأصولي بلا جدوى ومن يرفعها الآن آملاً ألا تكون قشة الغريق.
اتفاق ضمني
المختلف في الخيارين اللذين يوفرهما استفتاء laquo;إيلافraquo; هذه المرّة هو أن النتيجة لا تقسّم القراء الى معسكرين متضادين في ما يتعلق بالحكم الإسلامي المتشدد نفسه. فالسؤال المطروح لا يسعى إلى معرفة حجم القراء الذين يؤيدون هذا النوع من الحكم واولئك الذين يرفضونه. بل إن صياغته تفترض اتفاقا ضمنيا عامًا على أن الأصولية الإسلامية laquo;مرفوضة من أساسهاraquo;.
وهكذا يصبح السؤال عما إن كان تلويح الأنظمة بالبديل الأصولي من قبيل التخويف فقط أم إن خطره حقيقي وآت بلا شك في حال سقوط هذه الأنظمة وهو اتفاق على أن هذا البديل خطر في كل الأحوال. من هذا المنطلق يصح القول إن الثلث (المتشائم) الذي قال إن الخطر حقيقي يتمتع في واقع الأمر بوزن سياسي أكبر من ذلك الذي يتمتع به ثلثا القراء (المتفائلين) الذين صوتوا للخيار الأول القائل إن الأمر لا يتعدى كونه فزّاعة.
التعليقات