يثير طموح الدوحة الاستثماري في الأسواق الفرنسية قلق العديد من الفرنسيين، بدخولها قطاعات اقتصادية مختلفة. وتنامى هذا القلق بعد الإعلان عن تمويل قطري لمشاريع في الأحياء الفرنسية الفقيرة، غالبية سكّانها من أصول مغاربية.


هولاند أثناء زيارة له إلى حي شعبي

باريس: بدأت الحكاية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، عندما توجه ممثلون عن الجمعية الوطنية للمنتخبين المحليين من أجل التنوع، وتضم منتخبين فرنسيين من أصول مغاربية، إلى الدوحة لتحفيز أمير قطر على الاستثمار في الأحياء الشعبية للمدن الفرنسية، وخصوصًا ضواحي باريس.

نجح الوفد، الذي يمثل الوجه الجديد للسياسة الفرنسية بوصول أبناء المهاجرين من أصل مغاربي إلى المسؤولية في عدد من المجالس البلدية المحلية، نجح في إقناع الدوحة بالاستثمار في هذه الأحياء، بعد أن انتزعوا من أمير قطر موافقته.

بدأها ساركوزي

تمت العملية في عهد الحكومة اليمينية، حين كان نيكولا ساركوزي يسيّر دفة الحكم في فرنسا. وإلى ساركوزي توجه اليوم تهمة جر قطر للاستثمار في مجالات متعددة في فرنسا، نظرًا للعلاقة الخاصة التي جمعته مع أمير قطر. آنذاك، لم تبد الأطراف السياسية الفرنسية انتقادًا شرسا للمشروع، باستثناء اليمين المتطرف الذي ظل يعتبر أن الأمر قائم على أساس ديني، والغرض منه دعم شريحة مجتمعية معينة يجمعها دين الإسلام.

أخذت العملية طريقها نحو الإنجاز، تحت الإشراف المباشر لسفارة قطر في باريس، التي شرعت في وضع ملفات المشاريع التي تبحث عن تمويل حتى ترى النور يومًا في الأحياء الشعبية.

لكن العملية اصطدمت بالانتخابات الرئاسية ولم يكن ممكنًا الاستمرار فيها، كيف لا توظف العملية الاستثمارية برمتها في التنافس الانتخابي، باتهام أمير قطر بدعم صديقه ساركوزي في السباق إلى قصر الإليزيه.

اليمين يرفع الصوت

تم تجميد المشروع مع وصول اليسار إلى الحكم، ثم أعلن أن هذا الدعم المالي سيوجه للمقاولات الصغرى والمتوسطة، وهو ما أغضب الجمعية التي كانت وراء هذه المبادرة منذ البداية، حتى أنها اعتبرت ذلك سطوًا على المشروع، وكاتبت الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مطالبة إياه quot;بإرجاعه إلى الأحياء الفقيرةquot;.

الرئيس الفرنسي وامير قطر

ينتهي هذا المسلسل بإعلان الحكومة اليسارية في آخر المطاف أن هذا الدعم سيأخذ وجهته الأولى، الأحياء الفقيرة، وسيضاف إليه غلاف مالي من الدولة بقيمة مماثلة للاستثمار القطري، أي 50 مليون يورو. لكن هذا لم يرُق للمعارضة اليمينية، فارتفعت أصواتها منتقدة هذه الخطوة بشدة.

وشكك نواب يمينيون في نوايا الدوحة للاستثمار في الأحياء الفقيرة الفرنسية، إذ عبر النائب ليونيل لوكا المحسوب على تيار quot;اليمين الشعبيquot; في حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية المعارض، والقريب في الكثير من أفكاره من اليمين المتطرف، عن quot;بالغ قلقي لأن هذه الأموال تأتي من بلد يطبق الإسلام الأصوليquot;، على حد تعبيره.

كما أخذت الاحتجاجات على الدعم المالي القطري للأحياء الشعبية الفرنسية منحى أكثر جدية، بدعوة نواب برلمانيين من اليمين المعارض إلى تشكيل لجنة تحقيق قضائية لمعرفة ما أسماه برونو لومير، الوزير السابق في حكومة ساركوزي، quot;استراتيجية قطر على المدى البعيد باستثمارها في عدد من القطاعات في فرنسا آخرها الأحياء الشعبيةquot;.

ولاء المسلمين الفرنسيين

من جانب آخر، وصف علي زريق، عضو المجلس الوطني للحزب اليميني المعارض وعضو فيدراليته على مستوى إقليم سان دوني، وهو من أبرز ضواحي باريس، وصف المبادرة القطرية quot;بالعمل الإيجابيquot;، إلا أنه شدد على ضرورة تأطيره ومراقبته كي يحقق الأهداف المنتظرة منه.

وقال زريق لـ quot;إيلافquot;: quot;يجب وضع هذا التمويل في أياد أمينة، كي لا يصل أبدًا إلى أيادي جماعات أصولية فيستغل بشكل خاطئ تمامًاquot;، مفسرًا الاحتجاجات التي يلاقيها هذا المشروع من قبل نواب يتقاسم معهم التنظيم السياسي نفسه أنه راجع إلى quot;بعض الشكوك التي تساورهم حولهquot;.

وانتقدت أقلام يمينية عدة قبول الحكومة الفرنسية بهذا الدعم من دون مقابل، داعية إلى اشتراط احترام قطر عددًا من مبادئ الديمقراطية في عقر دارها، إن كانت ترغب في ولوج الأحياء الشعبية الفرنسية. ووقف الكاتب المثير للجدل برنار هنري ليفي عند الوضع السياسي في هذا البلد الخليجي والمعاناة الإدارية للمهاجرين فيه، ليثير موجة من التساؤلات حول النوايا الحقيقية التي تدفع قطر إلى دفع هذه المبالغ الهائلة من المال على شكل استثمارات، في مناطق تسكنها غالبيةٌ مسلمة، وكأنه يلمّح إلى نية قطرية بشراء ولاء هذه الغالبية.

فرصة لا يفرط فيها

لم يقتصر انتقاد الاستثمار القطري على اليمين، فأطرافٌ عدة في اليسار الحاكم لم تصفق للفكرة. وقال عبد الرحيم مزهر، وهو قيادي في الحزب الاشتراكي الحاكم في منطقة بورجون، quot;إن هذا يمسّ بالسيادة الفرنسية، فمساعدة هذه الأحياء هي أولًا وأخيرًا من اختصاص الدولة، وما عليها إلا أن تطبق مبدأ المساواة في العناية والاهتمام على جميع مناطق فرنساquot;.

وأكد مزهر أن اليسار انتقد هذا المشروع عندما كان في المعارضة، لكنه يستدرك قائلًا: quot;الوجود في الحكم يضع الحكومة أمام استحقاقات تنفذها مكرهة، وخاصة على الصعيد الاقتصادي، لأن اقتصاد البلاد لا يقبل التفريط في فرص مثل هذه، على أن يستفيد منها الذين دعوا إلى المبادرة منذ البدايةquot;.

وشدد الإطار الاشتراكي في الوقت نفسه على ضرورة quot;وجود آليات للمتابعة والمراقبة لمعرفة طرق صرف هذا الدعم والجهات التي تستفيد منه، وذلك حتى لا يتجه نحو جماعات دينية تستغله لأغراض أخرىquot;، متأسفا على quot;عدم تنسيق فروع حزبه على مستوى المناطق الفقيرة من المدن الكبرى التي يستهدفها المشروعquot;.