دعا منتدى الفكر العربي إلى استنهاض همم الأمة العربية وقدراتها الكامنة، للتعاون في سبيل تجاوز تحديات جسام تنتظرها مع التغييرات الحاصلة فيها، وتحويل هذه التحديات إلى فرص لحياة كريمة، تقوم على تكافؤ الفرص والتخلي عن التمييز والإقصاء.


أيمن الزامل من عمّان: تنادى أعضاء منتدى الفكر العربيّ، بمبادرة من رئيسه سمو الأمير الحسن بن طلال، وأعضائه من مفكري الوطن العربي، ومثقفيه وبمشاركة المؤتمر الشبابي العربي الخامس، الذي عقد في عمّان في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، إلى وضع ميثاق اجتماعي عربي يستجيب للتغييرات الحاصلة، ويضمن مستقبلًا أفضل، بما يقود إلى استنهاض قدرات الأمة وطاقاتها الكامنة، لا سيما إذا تأسس على قيم الحرية والمساواة والمشاركة والعدالة وحكم القانون ومرتكزات الفكر الديمقراطي.

في بيان وصل إلى quot;إيلافquot;، قال المنتدى: quot;إيمانًا منَّا بوحدةِ مستقبلِ الأمةِ العربية ومصيرِها وقيمِها الأساسية، وسعيًا نحوَ مجتمعِ عربي يقومُ على الديمقراطيةِ والحريةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ وصونِ الكرامةِ الإنسانية وحقوقِ الإنسانِ، وتحقيقًا لرفاه الشعب في تنميةٍ مستدامةٍ تَخدمُ الأمَّةَ وأجيالَها القادمَة، ووعيًّا منَّا بالتَحولاتِ التاريخيَةِ العمَيقةِ التي يَشهدُهَا الوطنُ العربي، وما آلت إليَه الأمَّةُ من تشظٍ وفرقةٍ، وفي قراءةٍ مستنيرةٍ لمستقبل هذا الوطن بأقطاره كافة، فإن استخلاص العِّبر من الماضي والحاضر لِتحريكِ الإرادةِ العربيةِ مِنْ جديدٍ والدعوةِ إلى التَغيير الطوعي على أنَّه الأسلوبُ الحضاري، كفيل بالعطاءِ النوعي ورسم صورة مشرقة لمستقبل الأمَّة لتصبحَ كلّها ضرورة بالغة لكلِ مثقّف ومفكّر وسياسيّ وصانع قرارquot;.

أضاف البيان: quot;بِما أن الوطنَ العربي قدْ شَهِّدَ ويَشهدُ تغييرات متواترة منذُ أفولِ الدولةِ العثمانيّة، وأنَّ الأمَّة تَختزنُ طاقات وقدرات كامنة تمكنها من تأكيد ذاتها، وممارسة سيادتها في رسم حاضرها ومستقبلها، وأنها ساعيةٌ مثل باقي الأمم الحية إلى أن تتبوّأ الموقع الذي يليق بها، عبّرتْ الشعوبُ العربية خلالَ السنتين الماضيتين عن رغبةٍ جامحةٍ للوصولِ إلى ما وصلتْ إليّه الأمم المتقدمة في بناء مجتمعاتها، على قيمٍ إنسانيةٍ تصبو إليّها كل الشعوب، وفي مقدِّمَتها قيم الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة والمواطنة المتكافئة، وتداول السلطة التنفيذية، لا سيما وأنَّها قيم تُشكلُ منظومة واحدة لا تتجزأquot;.

إستئناف دور العرب التاريخي
أقر المنتدى بأنَّ المستقبل ينطوي على تحدّيات جسام، لذا لا بدَّ أن تنهضَ الأمة لمواجهتها، وتحويلها إلى فرص لتحقيق مجتمعات الحرية والمساواة والمشاركة والعدالة وسيادة القانون وبناء أنظمة سياسية ديمقراطية راسخة، يشارك فيها جميع الأفراد. ويشملُ الأمر جميع الفئات والأديان والطوائف والجماعات، بمشاركة فاعلة متوازنة، بعيدًا عن استئثارِ أي فئة أو جماعة بالسلطة، واحتكار الحقيقة، واستخدام مصطلحات التخوين والتكفير، وعدم الاعتراف بالآخر.

وبما أن الأمَّة العربيَّة تشهدُ استلابًا واضحًا لثرواتها وأموالها وعقولها وأراضيها، وتواجِّه هجومًا شرسًا على ثقافتها، وقيمّها السامّية، ويُساءُ عن قصد أو غير قصد إلى دينها، وهي أمور ترفضها الأمَّة وتتحدّاها، وتَعُّدُها مناقضة للمواثيق الدولية، والشرائع السماوية، فإنها تتطلعُ إلى استئناف دورها التاريخي في الإسهام في الحضارة الإنسانية، وبناء ثقافة السلام والأمن الإنساني بين الأفراد والشعوب والأمم، وإلى التعاون مع كل قوى الخير في العالم لتحقيق ذلك.

حقوق منقوصة
يرى المنتدى أن المرأة العربية لا تزال تعاني من إنكار واضح لحقوقها ودورها، وتخضع للتهميش والتمييز. وفي ضوء التقدم الذي حققته قضية المرأة في العالم، وأهمية الدور الفعّال الذي اضطلعت به المرأة العربية إبان العقود الأخيرة، وبسبب الحرص على حشد سائر قوى المجتمع لإنجاز أهداف مسيرة النهضة، لا بد من إيفائها حقها بتمكينها من فرص متساوية بحسب إمكاناتها.

وعن أوضاع الشباب العربي، قال المنتدى: quot;الشباب يشكِّلون النسبة العليا بين مختلف الشرائح العمرية في مختلف الدول العربية، وحيث إنَّهم قد نهضوا بدور أساسي في الحراك العربي الراهن، وبرهنوا على قدرات منقطعة النظير في مختلف المساعي الإنسانية، وبما أن العلاقة بين السلطة والمواطن في عدد من دول الوطن العربي الكبير بحاجة إلى إعادة تعريف بسبب رفض شعوبها للاستبداد ورفضها لاحتكار السياسة من جانب مجموعات محدَّدة ونخب محدودة، ورفض امتهان كرامة الإنسان والتلاعب بمقدراته، فإن الأمَّة تطالب بعلاقة تعيد للشعوب حقوقها الإنسانية كاملة، بحيث يكون الشعب فيها مصدر السلطات، وتكون المجتمعات مبنية على العدالة، والسلم الاجتماعي، والأمن الإنساني. فالأمة بحاجة إلى فكر نهضويّ شامل يأخذ في الحسبان الجوامع المشتركة والخصوصيات والفوارق.

مرتكزات الميثاق
ينص الميثاق الاجتماعي العربي على ضرورة البناء على المواثيق التي صدرت من مختلف المؤسسات والمنتديات، كميثاق الجامعة العربية (1945)، وميثاق مجلس التعاون الخليجي (1981)، وميثاق مجلس التعاون المغاربي (1989)، والميثاق النهضوي العربي (1988-2010)، والميثاق الوطني الأردني (1990)، ووثائق الأزهر الشريف بشأن مستقبل مصر (2011)، والمواثيق الدولية والإقليمية ذات الصلة. وكلها مواثيق سعت إلى رسم صور المستقبل قطريًا، أو بشكل متعدد الأطراف، وذلك لصياغة ميثاق متناغم معها ومجدد لها، ضمن رؤية تأخذفي الاعتبار أهم ما طرحته الحركة الإصلاحية والتغييرية العربية طيلة مرحلة ما بعد الاستقلال وصولًا إلى أهداف التغييرات التي حصلت في العام 2011.

وأكد الميثاق على ضرورة الاعتراف بسيادة مفهوم المواطنة المتكافئة ومفهوم التعددية السياسية والثقافية والاجتماعية بما يضمن القضاء على مسببات الفتنة الطائفية والمذهبية والعرقية التي تهدّد مستقبل الأمة، وتقود إلى فرقتها وتقسيمها كيانات أمنية صغيرة متناحرة.

وبالتالي، فإن الميثاق الاجتماعي العربي المنشود يجب أن يشمل نصوصًا تعترف بوجود الهويات العامة والفرعية على حدٍّ سواء، وتقرّ بفوائد التنوع الثقافي، ومبدأ العيش المشترك، وتقرُّ بأن المحاصصة في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي هي نقيض المواطنة المتكافئة.

البعد الاجتماعي
البعد الاجتماعي هو أكثر الأبعاد في المشروع الحضاري العربي أهمية. ولا يمكن للمشروع العربي أن ينجح إلاّ إذا اقترنت السياسة بالمعطيات الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا أطُلق على الميثاق اسم الميثاق الاجتماعي العربي.

أكد الميثاق الاجتماعي العربي على أن الوصول إلى السلم الاجتماعي بين مختلف مكوّنات المجتمع مرهون بتنمية اقتصادية شاملة مستدامة تعتمد على تطوير الاقتصادات العربية وتصنيعها، وخلق طيف واسع من فرص العمل، لتتوزع مغانم التنمية على أسس العدالة والمساواة والجدارة وتكافؤ الفرص.

ونص الميثاق على اعتماد منهجية واضحة تصل المرأة عبرها إلى نيل حقوقها الكاملة، وذلك بتصويب جميع التشريعات المميِّزة ضدها، والتصدي لكل الممارسات التي تنتقص من حقوقها وإنسانيتها، بما ينسجم مع الشرائعِ السماويةِ والمواثيق والاتفاقات الدوليّة. ويؤكد رفض أي تمييز أو اضطهاد أو ظلم يلحق بأي فئة أو دين أو طائفة أو جماعة، ويُعَدّ التنوّع الثقافي إثراء للثقافة المجتمعية، ويشدد على ضرورة اعتماد سياسة صريحة لإزالة أسباب هجرة أتباع بعض الأديان والطوائف والإثنيات خارج الوطن العربي وتهجيرهم.

التعليم أساس
رأى الميثاق أن التعليم واكتساب المعارف العلمية والتكنولوجية هما حجر الزاوية في بناء مشروع النهضة العربي، وفي تمكين الأمة من تكوين رأس المال البشري القادر على إدارة ثرواتها واستثمارها. ولهذا، فإن بناء النظم التعليمية يشكل نقطة الانطلاق الأساسية في تنشئة الأجيال وبناء الأمة على أسس تنافسية قائمة على الاستحقاق.

ويؤكد الميثاق على أن الرؤية الإستراتيجية المشتركة للتعليم في الوطن العربي يجب أن تهدف إلى إعداد الشباب لبناء المستقبل وتطوير القيادات الفكرية والعلمية والثقافية والسياسية والفنية والاقتصادية على أسس الجدارة والاستحقاق، وبناء المواطن المستوعب لقيم حضارته العربيّة الإسلامية، المحصن بمبادئ المواطنة الصالحة، واحترام حقوق الآخرين.

كما يؤكدُ الميثاق أن الأمَّة أولى بقدرات المتمّيزين ومواهبهم من علمائها، ومفكريها، وباحثيها، وأصحاب الريادة، في الصناعة، والتجارة، ويدعو إلى تهيئة البيئة الإبداعية لهم، التي تعطيهم حرية البحث، والتفكير، والعمل، وتوفير الحوافز، والعوائد المادية لهم، التي تحول دون هجرتهم.

دعم البحوث العلمية
يؤكد الميثاق على أن لمراكز الدراسات والبحوث الوطنية المنزهة عن التبعية الأجنبية دورًا مساندًا للحكومات في صنع السياسات ووضع الإستراتيجيات، وأن الدولة العربية الحديثة تشجّع على قيام مثل هذه المراكز وتشجّع على تفاعلها داخل الأقطار العربية ومع المراكز المناظرة لها في الدول الأخرى على أسس الندية، بحيث تتمكن هذه المراكز من القيام بمهامها بحرية تامة، وتقدم للأمة قاعدة شعبية واسعة لمناقشة السياسات وآثارها قبل إقرارها.
وبالتتابع، فإنَّ مراكز الدراسات والبحوث التي تعمل في الوطن العربي وتموّل من أطراف أجنبية عليها أن تخضع لشفافية كاملة تتيح مساءلتها ورصد أعمالها.

طبيعة الحكم
هدف الميثاق العربي الاجتماعّي الجوهري هو الاتفاق على الأسس التي يجب أن تُبنى عليها الدولة العربية الحديثة، سواء أكانت ملكية أم جمهورية. وأول هذه الأسس هو الاعتراف بأن الشعب مصدر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأن الطريقة المثلى التي تمكن الشعب من ممارسة سلطاته تكمن في انتخابات حرة نزيهة يختار الشعب من خلالها ممثليه، تمثيلًا يستند إلى المواطنة، ويرفض المحاصصة على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية أو جنوسية (جندرية) أو غيرها، لتكون المجالس النيابية المنتخبة أساسًا لتشكيل الحكومات واستبدالها في إطار التداول السلمي للسلطة التنفيذي.

وأضاف الميثاق :quot;الدولة العربية الحديثة ينبغي أن تكون في الأساس دولة القانون والمؤسسات، وأن تصاغ القوانين الناظمة للحياة استنادًا إلى القيم الإنسانية الرفيعة، وفي مقدمتها القيم المستقاة من الشريعة الإسلامية السمحةquot;.

بنك عربي للتنمية
يدعو الميثاق الدول العربية إلى إقامة بنك للتنمية العربية، تساهم فيه الدول العربية، ويهدف إلى استثمار ثروات الأمة في تنمية الأمة في مشروعات عابرة للحدود بين الأقطار تعود على الأمة بالنفع المتبادل، بدلًا من انجذاب الاستثمارات العربية إلى البنوك الأجنبية.

ويؤكد الميثاق أن التحديات التي تواجه دول الوطن العربي في مجال الموارد المائية والطاقة والبيئة والغذاء تحديات عابرة للحدود يصعب التعامل معها بانفراد أو باتفاقات ثنائية، ما يفرض حلولاً تعتمد العمل العربي المشترك، من خلال مؤسسات مشتركة هدفها التنمية العربية على أسس تجارية.

في هذا الإطار، باتت تقوية مؤسسات العمل العربي المشترك واضطلاعها بدور أكثر فاعلية ونفاذًا في المجالات الاقتصادية والثقافية والإنسانية ضرورة ملحّة من أجل محاربة الفقر والبطالة والتخلف، ومن أجل دعم مستقبل الأمة ومكانتها.
وعليه، فإن الميثاق يدعو الدول العربية إلى إتاحة التبادل التجاري والخدمي، وتبادل القوى العاملة والاستثمارات، وإنشاء المشروعات التنموية المشتركة العابرة للحدود لإيجاد فرص العمل والاستغناء عن اليد العاملة غير العربية وتحقيق بيئات استثمارية جاذبة لرؤوس الأموال العربية وغير العربية.

الدفاع عن اللغة العربية
دعا الميثاق إلى ضرورة تضافر الجهود للدفاع عن اللغة العربية وعن هوية الأمة الثقافية ولشرح قيمها بكل الوسائل، وذلك بالتفاعل مع مؤسسات الفكر العالمية والمشاركة الفاعلة في المنظمات الدولية غير الحكومية، وشرح قيم الحضارة العربية الإسلامية في مجالات السعي الإنساني، وتوليف تلك القيم مع السلوكيات المطبقة في مجتمعاتنا، ضمن منهجية تخدم أهداف الأمة وتنظم هذه المساعي ضمن أُطُرٍ واضحة وأهدافٍ بيّنة وأهداف واضحة، تشترك فيها المؤسسات الحكومية مع مؤسسات المجتمع المدني العربي.

وبما أن العولمة صنعت واقعًا دوليًا لا تستطيع الأمَّة تجاهله، فإنَّ الميثاق يُحدّد الأسس التي تقبلها الدول العربية لتنظيم العلاقات الدولية، بما يرفض الهيمنة واستلاب حقوق الشعوب، ومصادرة الثروات الطبيعية، والطاقات الإنسانية، وبما يدعو إلى علاقات متكافئة، وعادلة بين الدول وبين التكتلات الدولية بما يخدم مصالح الأطراف، ويؤسس لسلام مستدامٍ بين الأمم.

تعاون للنجاح
ووفقًا للمنتدى، تحقيق أهداف هذا الميثاق مرهون بمدى تعاون قوى الأمة الحيّة وكفاءاتها الثقافية والفكرية والعلمية واشتراكها، وعلى درجة قناعة الفاعلين على الساحة السياسية والمدنية والدينية والثقافية والاجتماعية والإعلامية، الأمر الذي يحتاج حوارات جادة ومسؤولة لتكوين تصوّرات مشتركة في إطار التوافق الإستراتيجي طويل الأمد، ضمن كتلة تاريخية مؤمنة بذلك ومستعدة للعمل بكل تفانٍ من أجل الوصول إلى الأهداف النبيلة التي يتضمنها هذا الميثاق.

هذا فالحوار لم يعد اختيارًا بقدر ما أصبح اضطرارًا وواجبًا، الأمر الذي تحتاجه مجتمعاتنا لكي تضع خطواتها على الطريق الصحيح. وبقدر ما يصبح الحوار السلمي غايتنا فإنَّ المستقبل سيكون واعدًا.

وعليه، فإنَّ تشجيع الحوار والتركيز على أخلاقياته في الجامعات ومواقع العمل ودور العلم والمحافل الثقافية والمنتديات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية ودور العبادة وفي كل مرافق الحياة والعمل، سيكون الطريق الأكثر ضمانًا لحياة حرّة كريمة.