ضربت الطائرات الحربية الفرنسية يوم الأحد معاقل الإسلاميين في شمال مالي منحّية جانبًا أشهرًا من التردد الدولي بشأن التدخل في المنطقة بعد فشل كل الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لكبح جماح المتطرفين.


كانت الولايات المتحدة حاولت طوال سنوات أن توقف انتشار التطرف الإسلامي في المنطقة بتنفيذ أكثر برامجها لمكافحة الإرهاب طموحًا في هذه المنطقة مترامية الأطراف من الصحراء الكبرى.

ولكن عندما تقدم المتمردون مجتاحين المنطقة في العام الماضي، انشق قادة وحدات نخبوية في جيش مالي، كانت ثمرة سنوات من التدريب على أيدي خبراء أميركيين، وأقدموا على انشقاقهم حين كانت مالي أحوج ما تكون الى خبرتهم، منتقلين مع جنودهم وأسلحتهم وشاحناتهم ومهاراتهم المكتسبة حديثا الى صفوف العدو في غمرة القتال، كما أفاد مسؤولون عسكريون ماليون كبار. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن أحد هؤلاء المسؤولين وصفه انشقاق القادة العسكريين بـquot;الكارثةquot;.

ثم قام ضابط مدرَّب على يد الاميركيين بانقلاب أسقط حكومة مالي المنتخبة ممهدا لوقوع أكثر من نصف البلد بأيدي المتطرفين الاسلاميين. وحاولت طائرات التجسس والاستطلاع الاميركية من دون طيار أن تنقل صورة عن حقيقة ما يجري، ولكن المسؤولين الاميركيين وحلفاءهم ما زالوا يحاولون تكوين فكرة عن طبيعة العدو وقوته.

الآن، وفي مواجهة تحذيرات اميركية متواصلة من ان هجوم قوات غربية على معقل الإسلاميين يمكن ان يجيِّش الجهاديين في أنحاء العالم ويشجّع على تنفيذ هجمات إرهابية تصل الى اوروبا، قرر الفرنسيون ان يدخلوا الحرب بأنفسهم.

وتمكن الفرنسيون، اولاً، من وقف تقدم الاسلاميين، قائلين ان مناطق مالي الأخرى كانت ستقع تحت سيطرتهم لولا تدخل قواتهم. وبعد وقف تقدم الاسلاميين انتقلت الطائرات الحربية الفرنسية يوم الأحد الى الهجوم باستهداف معسكراتهم التدريبية ومستودعاتهم ومواقعهم الأخرى في عمق الأراضي التي يسيطرون عليها في محاولة لاستئصال المتمردين الاسلاميين، الذين أقاموا واحدا من أكبر الملاذات الجهادية في العالم.

وكان مسؤولون في وزارة الدفاع الاميركية، ولا سيما ضباط في قيادة العمليات المشتركة الخاصة في البنتاغون، دعوا الى حملة تستهدف قيادات جماعتين متطرفتين من الجماعات المسلحة التي تسيطر على شمال مالي، هما انصار الدين والقاعدة في بلاد المغرب الاسلامي. وذهب هؤلاء الى أن قتل القادة يمكن ان يؤدي الى انهيار داخل هذه الجماعات.

لكن ادارة اوباما التي تركز اهتمامها ومواردها للتعامل مع نزاعات أخرى في بلدان، مثل باكستان واليمن والصومال وليبيا، رفضت مثل هذه العمليات، مفضّلة تنفيذ استراتيجية حذرة تتفادى التدخل المباشر بمساعدة الدول الأفريقية على التصدي للتهديد واحتوائه بمفردها.

أنفقت الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع الماضية ما بين 520 و600 مليون دولار على تنفيذ برنامج واسع لمواجهة التطرف الاسلامي في المنطقة من دون التورّط في خوض حرب من طراز الحروب التي خاضتها في الشرق الأوسط. وامتد البرنامج من المغرب الى نيجيريا، وتوقع المسؤولون الاميركيون ان يكون الجيش المالي شريكا مثاليا في هذا المجهود. وقامت قوات خاصة اميركية بتدريب جنوده على الرماية وضبط الحدود ونصب الكمائن وغير ذلك من المهارات الخاصة بمكافحة الارهاب.

ولكن كل هذا التخطيط المدروس انهار بسرعة عندما عاد مقاتلون مدججون بالسلاح من ليبيا، حيث تمرسوا في القتال، وانضموا الى جماعات جهادية، مثل انصار الدين، وتمكنوا مع هذه القوات من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات المالية هزيلة التسليح وتحطيم معنويات جنودها، واثارة الاستياء في صفوفهم الى حد وقوع تمرد ضد الحكومة في العاصمة باماكو.

وخلصت مراجعة داخلية سرية أنجزتها قيادة القوات الاميركية في افريقيا الى ان الانقلاب حدث بسرعة، حتى ان القادة الاميركيين أو محلليهم الاستخباراتيين، لم يتمكنوا من رصد أية مؤشرات تنذر بحدوثه.

وقال الكولونيل توم ديفيز المتحدث باسم قيادة القوات الاميركية في افريقيا قوله quot;ان الانقلاب في مالي حدث بسرعة وبلا سابق انذارquot;. واضاف الكولونيل ديفيز quot;ان الشرارة التي أشعلته انطلقت من صفوف الضباط الصغار الذين اطاحوا بالحكومة في نهاية المطاف، وليس على مستوى القيادة العليا، حيث كان من الأسهل ان تُرصد علائم تنذر بما سيحدثquot;.

ولكن ضابطًا في قوات العمليات الخاصة رفض هذا الرأي قائلاً لصحيفة نيويورك تايمز إن نذر الانقلاب quot;كانت تختمر منذ خمس سنوات، ولكن المحللين كانوا قانعين بافتراضاتهم، ولم يروا التغيرات الكبيرة، وآثارها مثل الأسلحة الثقيلة الآتية من ليبيا والمقاتلين المختلفين quot;الأشد اسلاميةquot; الذين عادوا من هناكquot;.

في النهاية اتضح ان الوحدات المدربة على يد الاميركيين نفسها التي راهنت عليها الولايات المتحدة لوقف تقدم الاسلاميين، كانت العامل الحاسم في هزيمة الحكومة المالية أمام المتمردين. فان قادة هذه الوحدات النخبوية كانت من الطوارق الذين اجتاحوا شمال مالي.

وقال ضابط كبير ان القادة الطوارق لثلاث وحدات من اصل اربع وحدات كانت تقاتل في الشمال انشقوا، وانضموا الى التمرد quot;في لحظة حاسمةquot;، آخذين معهم جنودهم واسلحتهم ومعدات نادرة في الجيش المالي. واضاف ان نحو 1600 منشق آخر من الجيش المالي انضموا اليهم، مبددين أي أمل لدى الحكومة بمقاومة هجوم المتمردين.

وقال ضابط مالي كبير يشارك الآن في القتال quot;ان مساعدة الاميركيين لم تكن مجدية، وان خيارهم كان خاطئاquot;، في اشارة الى اعتماد الولايات المتحدة على قادة ينتمون الى قبائل متمردة على الدولة المالية منذ 50 عاما.

تسبب انهيار الجيش المالي، بما فيه من وحدات دربتها القوات الخاصة الاميركية، ثم الانقلاب الذي أعقبه، بقيادة ضابط دربه الاميركيون أنفسهم، هو الكابتن امادو سانوغو، في إصابة كبار القادة العسكريين الاميركيين بالذهول والحرج.

وقال قائد القوات الاميركية في افريقيا الجنرال كارتر هام في كلمة ألقاها في جامعة براون الاميركية انه أُصيب quot;بخيبة أمل مريرة حين شارك ضابط كانت لدينا معه علاقة تدريبية في اطاحة الجيش بحكومة منتخبةquot;.

دافع مسؤولون اميركيون عن تدريب ضباط ماليين انقلبوا على الحكومة، قائلين ان النية لم تكن ذات يوم تدريب القوات المالية تدريبا شاملا، كما فعلت الولايات المتحدة في العراق وافغانستان. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤول عسكري اميركي في المنطقة قوله quot;نحن دربنا خمس وحدات على امتداد خمس سنوات، فهل يكفي هذا لإنشاء جيش متكامل قوي البناء؟quot;.

وشهدت المرحلة التي اعقبت الانقلاب العسكري تحرك المتطرفين بسرعة لإزاحة الطوارق في شمال مالي وتطبيق نسختهم الخاصة من الشريعة، كما يفهمونها، على السكان، بما في ذلك قطع الأيدي والجلد وإجبار عشرات الآلاف على النزوح هربًا من هذه الممارسات القاسية.

ثم اعتمدت القوى الغربية استراتيجية احتواء، داعية الدول الأفريقية الى تطويق الشمال، الى ان تتمكن من تحشيد قوة تطرد الاسلاميين في موعد، من المستبعد ان يكون قبل الخريف. ولتحقيق هذا الهدف، قررت وزارة الدفاع الاميركية تزويد موريتانا بشاحنات جديدة، والنيجر بطائرتي استطلاع من طراز سيسنا مع تدريب قوات البلدين.

لكن هذه الخطة البديلة ايضًا باءت بالفشل عندما اندفع الاسلاميون في الاسبوع الماضي جنوبًا صوب العاصمة. وبوجود آلاف المواطنين الفرنسيين في مالي، مستعمرتهم السابقة، قررت فرنسا الهجوم بعدما ملَّت الانتظار، وتحركت لضرب المتمردين على الخطوط الأمامية وفي عمق ملاذهم.

وقال خبراء إن القوات الأجنبية تستطيع بسهولة ان تسترد المدن الكبيرة في شمال مالي، ولكن المقاتلين الاسلاميين أجبروا اطفالا على القتال معهم، لردع أي قوة غازية، ومن المرجّح ان يستخدموا تكتيكات دموية للدفاع عن مواقعهم.

وقال المدير السابق لقسم مكافحة الارهاب في افريقيا التابع للبنتاغون رودي عطا الله ان المتمردين quot;أعدوا هذه المدن لتكون مصائد مميتة اذا اقتحمتها قوة تدخلquot;.