بعد عام على استئثار مدينة حمص السورية باهتمام العالم حين كانت ضحية أشدّ ما عرفته الحرب الأهلية السورية من عمليات قصف، أصبحت المدينة ملاذًا آمنًا بالمعايير النسبية طبعًا.


حزمت مئات العائلات التي نزحت إلى مدن سورية أخرى هربًا من القصف في شباط/فبراير من العام الماضي أمتعتها وعادت، بل أخذ مدنيون من حلب ودير الزور، حيث لايزال القتال شرسًا، ينتقلون إلى حمص، لأنهم سمعوا أن العيش فيها أفضل.

قال خالد أركسوسي رئيس عمليات الطوارئ في جمعية الهلال الأحمر العربي السوري لصحيفة الغارديان quot;إنها الحالة الوحيدة التي أعرفها في سوريا، حيث يعود الأهالي بعد فترة طويلة من التهجيرquot;. وأضاف quot;إن حمص قد تكون أهدأ من دمشقquot;.

مدينة هادئة نسبيًا

وكان أركسوسي محقًا. إذ إن دوي القصف يُسمع بصورة متكررة في دمشق، في حين لم تُسمع في حمص إلا بضعة انفجارات موجّهة على ما يبدو نحو أهداف تقع وراء الطريق الدائري، بحسب مراسل صحيفة الغارديان، الذي أشار إلى أن وسط حمص يزدحم بالمتسوّقين وأفواج الطلاب آتون وذاهبون من وإلى الجامعة أو يتجمعون في حلقات يدردشون داخل الحرم الجامعي.

تسبب حواجز التفتيش على العديد من المفترقات ازدحامات خفيفة في المرور، ولكن الجنود يبدون مسترخين وغير جديين في تدقيق الهويات وتفتيش صناديق السيارات، سعداء من دون ريب أن يُكلفوا بواجبات بسيطة، وليس إرسالهم إلى مناطق خطيرة بعيدة، بل هناك في حمص نساء مسلحات يرتدين بزات عسكرية، بعد تطوعهن للانخراط في قوات الدفاع الوطني، التي استحدثها النظام قبل فترة.

يقدر مسؤولون محليون أن نحو 150 ألفًا من سكان المدينة السورية الثالثة، البالغ عددهم 2.3 مليون شخص، نزحوا ولم يعودوا. وبالمفردات البشرية، فإن هذا رقم ضخم، ولكنه بالمؤشرات النسبية هجرة أصغر مما شهدته دمشق وحلب.

عاصمة العلويين والنظام

ويرى مراقبون أن موقع حمص الاستراتيجي وسط الحزام السكاني لسوريا كان يعني أن النظام لا يمكن أن يتحمّل سقوطها بيد قوات المعارضة، وبذلك شطر سوريا إلى نصفين، منوهين بأن الأقلية العلوية، التي ينتمي إليها رئيس النظام بشار الأسد وغالبية أركانه، يعتبرونها عاصمتهم. من هنا شراسة الهجوم المضاد الذي شنته قوات النظام عندما سيطر مقاتلو المعارضة في أوائل العام الماضي على حي بابا عمرو، وكانوا على وشك أن يمدّوا سيطرتهم إلى مناطق أخرى من المدينة.

الآن عاد الجيش النظامي ليبسط سيطرته على مناطق واسعة من المدينة، ودخلها مراسل صحيفة الغارديان بصحبة أربعة مرافقين غير مسلحين عيّنتهم الحكومة، بينهم رجل قدم نفسه بصفة صحافي محلي، لكنه كان يسجل كل أحاديث المراسل مع المواطنين.

وكان كل متجر تقريبًا في شارع مصعب بن الزبير الرئيس مغلقًا، وواجهات الطبقات العليا مخرمة بثقوب القذائف ونيران الهاون، ولكن الحياة بدأت تعود تدريجيًا. وقالت سحر رحمون quot;عندما يرانا الناس نعيش هنا يتشجّعون، ويبدأون بالعودةquot;. وأوضحت رحمون أنها هربت إلى بيت أختها في منطقة أخرى من المدينة حين كان القصف على أشده في العام الماضي.

عندما دخل مراسل الغارديان شارعًا جانبيًا أكثر ازدحامًا بالمارة كان القلق باديًا على مرافقيه، ولكنهم تمتموا بكلمة quot;إتبعوهquot; بدلًا من أن يطلبوا عودته. اتضح أن أول عائلتين التقاهما المراسل ليستا من سكان حي بابا عمرو.

ضيوف هنا... وهناك

وقال قاسم الخطيب إنه يسكن في حي بابا عمرو منذ ستة أشهر بعد نزوحه من قرية في شمال حمص quot;لأن مجموعات مسلحة دخلت هناكquot;. وكانت عائلته تنتقل من الشقة الأولى التي سكنتها في بابا عمرو إلى شقة تأمل بأن تكون أفضل على بعد بضع حارات. وأوضح الخطيب quot;يقولون إن هناك كهرباء وماءquot;. وأضاف مبتسمًا quot;كنا ضيوفًا هنا، وسنكون ضيوفًا هناكquot; في عبارة ملطفة للقول إنهم مهجرون متجاوزون لممتلكات الغير.

ورغم تقدم جيش النظام في مناطق أخرى من حمص فإن أزقة المدينة القديمة ما زالت في أيدي مقاتلي المعارضة. وهي أزقة تطوّقها مواقع القوات الحكومية، ولا يبدو أن لها قيمة استراتيجية تُذكر، ولعل هذا هو السبب في عدم قصفها بشدة.

لمسة ناعمة

السبب الآخر هو أن أحمد منير محمد، المحامي الذي عُيّن محافظًا لحمص في آب/اغسطس الماضي، يفضل quot;اللمسة الناعمةquot;، على حدّ تعبير صحيفة الغارديان. وقال مسؤولون في منظمات إنسانية مستقلة إن المتشددين في النظام وجيشه انتقدوا هذا الموقف، وإن النظام يرفض عادة السماح بوصول المؤن إلى مناطق المعارضة المحاصرة.

لكن في 3 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي سُمح لستة موظفين من الصليب الأحمر الدولي و28 متطوعًا من الهلال الأحمر السوري بدخول حي الخالدية وحي الحميدية في المدينة القديمة لإيصال مواد غذائية وحليب أطفال ومواد صحية، فضلًا عن إمدادات طبية إلى نحو مئة جريح.

وقال المحافظ في حديث لصحيفة الغارديان إنه يؤيّد المفاوضات مع مقاتلي المعارضة للاتفاق على وقف إطلاق النار بشروط. وبخلاف غالبية المسؤولين الآخرين، لم يشر المحافظ إليهم بوصفهم quot;إرهابيينquot;، بل استخدم تعبيرًا محايدًا هو quot;المجموعات المسلحةquot; أو quot;المسلحونquot;.

عمل عسكري واجتماعي

وأوضح أن سياسته هي عزل السوريين في المعارضة عن الجهاديين من المقاتلين الأجانب من السلفيين أو التكفيريين. وأكد المحافظ quot;أقول للميليشيات باستمرار إن كل أهل حمص أبنائي، وإننا نريد المضي على مسارين متوازيين، هما العمل العسكري ضد العصابات التي تكفِّر البعض، والعمل الاجتماعي من أجل الآخرين بالتواصل والتفاوض. والمشكلة هي ليست السلاح بحد ذاته، بل القضية هي التخلص من السلاح الذي في أذهان الناس. ونحن نطلب من هؤلاء أن يعودوا إلى الحياة المدنية. وألقى عدد منهم أسلحتهم، وانضموا إلينا في مقاتلة السلفيين والتكفيريينquot;.

وزعم المحافظ أن نحو 7 آلاف مقاتل يحتجزون زهاء 1000 مدني رهائن في المدينة القديمة. ولكن عددًا من القادة في حي الخالدية اتصلوا بالحكومة، ووافقوا على تغيير موقفهم، لتحرير المنطقة من تنظيم القاعدة، بحسب المحافظ.

لم يتسن التحقق من أقوال المحافظ، ولكن السلطات قدمت إلى مراسل صحيفة الغارديان شخصًا، قالت إنه منشق عن المعارضة. وروى فارس غمام إنه كان مع مجموعة مسلحة في الخالدية حتى آب/أغسطس الماضي. وقال quot;بدأنا بتظاهرات سلمية، ثم انتقلنا إلى العمل المسلح دفاعًا عن النفس، كنوع من حرس الحدود، لمنع الجيش من دخول المنطقة. ثم ظهرت مجموعات مسلحة شتى، وبدأت تتقاتل من أجل السيطرة. ولم يكن هناك قائد عسكري واحد، وكانت المجموعات المختلفة تختصم في ما بينها. وكان بعض القادة يسرقون المال، الذي كان يُضخّ لدعم ثورتنا، ثم هربوا إلى تركيا وألمانياquot;. وتابع غمام أنه قرر مغادرة حي الخالدية، ولكنه لم يعرف كيف quot;إذ كنتُ خائفًا من الطرفينquot;.

تشهير بتهمة الخيانة

وقام محافظ حمص بتشكيل لجنة مصالحة ونشر رقم هاتفها. فاتصل فارس غمام، وهرب من حي الخالدية ذات ليلة، بعدما نبه الجيش النظامي بألا يطلق النار عليه. ولكن متاعبه لم تنته بهروبه. وقال غمام quot;إن المجموعات المسلحة دمغتني بالخيانة، ونشرت اسمي ووجهي على الانترنتquot;.

نتيجة لذلك خُطف غمام على حاجز تفتيش لقوات المعارضة خارج حمص في تشرين الثاني/نوفمبر، ولكن لجنة المصالحة دفعت فدية للإفراج عنه. وقال غمام إنه وزوجته وأطفالهما الأربعة يعيشون الآن في سكن سري، وكان أرسل عائلته إلى خارج حي الخالدية، قبل أن يبدأ حصار النظام. وحتى آب/أغسطس الماضي، كانت قوات الجيش تقصف حي الخالدية بانتظام. ومنذ مجيء المحافظ الجديد، توقف القصف تقريبًا، بحسب غمام.

بصرف النظر عن صدق أو عدم صدق أقوال غمام، فإن إشارته إلى أن حمص تتمتع عمليًا بهدنة، أكدها آخرون عديدون، تحدثوا لمراسل صحيفة الغارديان في المدينة. ويبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كانت هذه المدينة، بعد كل ما تعرّضت له من تدمير مع سبق الإصرار، ستصبح ذات يوم نموذجًا لبقية المدن السورية.