شكك الدبلوماسي الفرنسي المسؤول عن غرب أفريقيا في الخارجية الفرنسية بجدوى العملية العسكرية في مالي من دون رؤية سياسية، فكلفه ذلك منصبه، إذ أعفي منه بشكل مفاجئ، ليكون الدبلوماسي الثالث الذي يقال من دائرة أفريقيا في كي دورساي.


بيروت: أرخت حرب فرنسا في مالي بثقلها على الدبلوماسية الفرنسية، إذ تم من دون إشارات مسبقة إعفاء لوران بيغو، الدبلوماسي الفرنسي المسؤول عن غرب أفريقيا في الخارجية الفرنسية، والمسؤول مباشرة عن الملف المالي، في خطوة مفاجئة تشي بأزمة تعتمل في أروقة كي دورساي، في ظل وزير الخارجية لوران فابيوس.
يأتي هذا الاعفاء بعد أسابيع قليلة من التخلي عن مسؤول آخر، على تماس مع الملف الأفريقي، هو جان فيليكس-باغانون، المسؤول المباشر عن منطقة الساحل الأفريقي، من دون أي ذكر للأسباب، علمًا أنه عين في هذا المنصب في حزيران (يونيو) 2012. ويذكر أنه في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، أقيلت إليزابيث باربيه، المسؤولة عن إدارة أفريقيا والمحيط الهندي في الخارجية الفرنسية، بسبب تنافر بينها وبين فابيوس، لتعين سفيرًا لفرنسا في جنوب أفريقيا.

توازنات وتساؤلات

في معرض تناولها هذا الخبر، قالت صحيفة لو فيغارو الفرنسية إن هذه الاقالات، التي ردّت جميعها إلى أسباب خاصة، طالت الدائرة المحيطة بفابيوس بشكل مباشر، وإن إعفاء بيغو، وقبله باغانون، أتى في سياق توازي العمليات العسكرية الفرنسية في مالي مع سجالات تدور في أروقة وزارة الخارجية الفرنسية حول جدوى هذه العمليات، وفي إطار توازنات دقيقة داخل الوزارة.
أثار هذه الاقالات تساؤل الدبلوماسيين الفرنسيين حول حقيقة دورهم في إدارة هذه الأزمة وحلها، في ظل غلبة الرؤية العسكرية. فالمعركة الفرنسية في مالي وضعت الخارجية في مواجهة القيادات العسكرية عالية المقام، وأثارت الغبار حول الأساليب التقليدية التي تنتهجها الخارجية لإدارة المصالح الفرنسية في أفريقيا.

رأي خاص

كانت صحيفة ليبراسيون الفرنسية قد لفتت إلى أن سبب إقالة بيجو ليس خاصًا، كما تقول مصادر كي دورساي. فهذا الموظف الكبير معروف بصراحته عند التصريح، وبخبرته المكينة في خفايا الأمور الأفريقية. وفي شهر تموز (يوليو)الماضي، كان بيغو متكلمًا في مؤتمر في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، فعبّر عن رأي شخصي حول الأزمة الناشئة في مالي، واصفًا هذا البلد بالديمقراطية الزائفة، وملمحًا إلى قلق يساوره حول انتقال الأزمة إلى بوركينا فاسو المجاورة.
كما صرّح بأنه يشكك في جدوى التعامل عسكريًا مع الأزمة الناشئة في منطقة الساحل، من دون تجربة الوسائل الأخرى، لما قد يطرأ من تداعيات سلبية على منطقة واسعة، تعاني هشاشة كبيرة في استقرارها السياسي والأمني.
واضاف: quot;إذا انهارت الحكومة المالية، فذلك لا يعني انتفاء الأزمة، لأن عوامل هذه الأزمة ستبقى موجودة وقائمةquot;.
إلى ذلك، انتقد بيغو الفساد المستشري في الإدارة الفرنسية التي تتولى هذا الملف منذ سنوات عديدة، متكلمًا على سجيته، ظنًا منه أن ما سيقوله سيبقى طي الكتمان. لكنه لم يعرف، كما قالت ليبراسيون، إن المعهد صور مداخلته كاملةً، وتم نشرها علانية على الانترنت.
كان هذا تصريحًا شخصيًا، لكنه أثار حفيظة باماكو وأوغادوغو وعواصم أفريقية أخرى، فاعترضت شديدًا على هذا الكلام الصادر عن مسؤول بهذه المرتبة العالية في الخارجية الفرنسية، بحسب لو فيغارو.

لا تجاوز للخطوط الحمراء

صار لوران بيغو مزعجًا وعلى فرنسا ركنه جانبًا. فكان شريط الفيديو دليلًا بيد فابيوس لإعفائه من منصبه، على الرغم من أن الوقت الآن ليس مناسبًا، وفرنسا في ساحة الوغى الأفريقية.
اسرّ بيغو لصحيفة لو فيغارو أنه فوجئ بالقرار الذي أتاه بين ليلة وضحاها، فأسقطه من منصبه بالضربة القاضية، من دون أن يزيد عن ذلك.
والتزمت مصادر الخارجية الفرنسية بتعليق عام على الموضوع، من دون الدخول في تفاصيله. فأكدت أن النقاش وتبادل الآراء أمر صحي جدًا في بلد ديمقراطي كفرنسا، لكنّ تخطي الخطوط الحمراء التي يرسمها الولاء للدولة بعد اتخاذ القرارات المصيرية أمرٌ مرفوض تمامًا، في إشارة واضحة إلى استمرار بيغو في التشكيك بجدوى المقاربة العسكرية الصرفة لمسألة الساحل الأفريقي.

الدفاع هو الأقوى

يبدو أن الحرب في مالي تنذر بإحداث المزيد من التشققات في صرح الحكومة الفرنسية، بعد اشتداد القتال مع الجماعات المسلحة وتكبد الفرنسيين الخسائر في الأرواح والعتاد، وعدم تحديد موعد حقيقي ومضمون لوقف العمليات العسكرية الفرنسية في مالي، خصوصًا في ظل الحديث المتكرر عن قرب استهلاك هذه الحرب الميزانية المخصصة لها، والانتقادات الموجهة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في هذا الشأن.
أحد زملاء بيغو في الخارجية حذر لصحيفة لو فيغارو من مغبة عودة الانقسامات القديمة إلى البلاد، بين مدني وعسكري، بعدما قدم الدبلوماسيون مسارات مختلفة بمبادرات فردية منهم لحل أزمة الساحل، وتطرقت إلى اسرار الود الفرنسي الأفريقي، من دون أن تلقى آذانًا صاغية.
ففي مثلث القرار الفرنسي، أي الإليزيه ndash; وزارة الدفاع ndash;كي دورساي، للدفاع ثقل لا يستهان به. وهذا ما يزعج الدبلوماسيين إذ يرون الاعلام موجهًا نحو جان إيف لو دريان، وزير الدفاع، دون غيره، فينفسون عن هذا الازعاج بالتأكيد أن البندقية وحدها لن تكفي لإحلال السلام في الساحل الأفريقي.
وتنقل لو فيغارو عن مصدر آخر في الخارجية الفرنسية قوله: quot;محور النقاش اليوم هو التنسيق بين الأطراف الثلاثة، وإطلاق عملية سياسية شاملة، وتمكين الحكومة المالية بكل الوسائط التي تحتاجها، كي لا تذهب تضحيات الجنود الفرنسيين أدراج رياح الصحارى الأفريقيةquot;.