يحير البرود الأميركي العرب، وخصوصًا في مصر وسوريا. ففي الأولى يتهم أوباما من كل طرف بالوقوف مع الطرف الآخر، وفي الثانية لم يحرك ساكنًا بالرغم من مقتل الآلاف في ريف دمشق بالسلاح الكيميائي، بسبب quot;عقدة العراقquot;.


يلاحظ مراقبون غربيون أن سمعة الرئيس الاميركي باراك أوباما هبطت في الشارع العربي إلى مستويات لم يُعهد لها نظير منذ توليه الرئاسة في العام 2008. فالكثير من المصريين يتهمونه بالتواطؤ سرًا مع الاسلاميين، وآخرون لا يقلون غضبًا يتهمونه بدعم الجيش في حركته لعزل الرئيس الاسلامي محمد مرسي. والمنطق يقول إن التهمتين لا يمكن أن تكونا صحيحتين في آن واحد.

لكن كراهية أوباما واسعة الانتشار وعميقة في العالم الاسلامي بحيث لم يعد المنطق يعني شيئًا، رغم أنه تسلم الرئاسة متعهدًا بترميم العلاقة معه بعد غطرسة سلفه واخفاقاته. وعندما يكون المرء القائد الأعلى لجيوش قوة عظمى، كثيرًا ما يفترض الآخرون أنه أقوى مما هو في الواقع. وهكذا يرى كثير من الاسلاميين أن يد الولايات المتحدة كانت وراء عزل مرسي.

وتصور ملصقاتهم في القاهرة أوباما فرعونًا شريرًا يحرك الفريق عبد الفتاح السيسي بخيوط غير مرئية من وراء الكواليس. وبنظر هؤلاء، وفرة من الدلائل على غدر الولايات المتحدة، من تصريحات وزير خارجيتها جون كيري، حين قال إن الجيش بحركته كان يعيد الديمقراطية، إلى احجام أوباما عن قطع المساعدات العسكرية لمصر.

وعلى النقيض من ذلك، فإن كثيرًا من المصريين المناوئين للاخوان المسلمين ورئيسهم المعزول يعتبرون أن الأحداث نزعت القناع عن اقوال أوباما الدافئة بشأن الديمقراطية، واتضح أنها مؤامرة هدفها تمكين الاسلاميين بهدف تقسيم بلدهم واضعافه. وتصور ملصقات هذا المعسكر أوباما ارهابيًا ملتحيًا.

تناقضات أميركية

في الولايات المتحدة نفسها، يلاحظ كثير من الاميركيين تردد رئيسهم إزاء العديد من القضايا الدولية الملتهبة. وفي الكونغرس تتعالى أصوات جمهوريين وديمقراطيين مطالبة بتعليق المساعدات العسكرية لمصر، كي لا تُتهم اميركا بالضلوع في اجهاض الديمقراطية.

وفي المقابل، يقول انصار السياسة الواقعية من الحزبين على السواء إن على أوباما أن يدعم الحكومة الجديدة في مصر للحفاظ على الاستقرار في أكبر الدول العربية سكانًا. وتثير الأزمة السورية جوقة مماثلة من الأصوات المتناشزة.

فالبعض من مخضرمي السياسة الخارجية يأخذون على أوباما دعوته المتعجلة إلى تنحي رئيس النظام السوري بشار الأسد من دون أن يفكر في البديل، وتعهده بعمل حاسم إذا استخدم النظام اسلحة كيميائية من دون أن يشفع تعهده بأفعال.

فأوباما هدد بأن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر، لكن هذا الخط وُضع على المحك مرة أخرى في 21 آب (اغسطس) بالتقارير التي تحدثت عن مجزرة كيميائية ارتكبتها قوات النظام في ريف دمشق. واقتصر رد فعل ادارة أوباما حتى الآن على دعوة الأمم المتحدة إلى التحقيق في هذه التقارير.

وهناك معسكر يضم جمهوريين وديمقراطيين يرون أن الخط الأحمر تحول إلى ضوء أخضر، يجيز للنظام السوري الامعان في جرائمه مستغلًا ضعف الرئيس وامتناعه عن تسليح المعارضة. وفي الوسط يقف من يؤكدون أن كل من يتهم الرئيس بالانحياز إلى هذا الجانب أو ذاك في الشرق الأوسط، أويدعوه إلى مثل هذا الموقف، لا يفهم أن النزاعات الخارجية لا تندلع كي يتدخل فيها الرؤساء الاميركيون.

لم تهزّهم

في العام 2011، عندما وصل الربيع العربي إلى القاهرة، أشاد أوباما بالمصريين على تطلعهم إلى الديمقراطية. واقتبس من مارتن لوثر كنغ ليثني على الاحتجاجات السلمية عمومًا، ودحضها الفكرة القائلة إن العنف هو خير وسيلة لتحقيق العدالة. وامتدح الجيش المصري لرفضه اطلاق النار على المدنيين.

وبعد عامين ونصف، لم تترك الأحداث مجالًا لمثل هذه الغنائية الرئاسية. ففي 15 آب (اغسطس) انتقد أوباما الجيش الذي امتدحه، ثم عاتب المصريين على ترويج نظريات المؤامرة عنه مثل دعمه المفترض لمرسي ولخصوم مرسي في وقت واحد. لكن مثل هذا البرود في التعامل مع مواقف شديدة التعقيد لن يرضي عربًا يغلي دمهم في الميادين والشوارع.

فمن سوريا إلى مصر، يدور نزاع تحركه عوامل شائكة، بينها عنعنات طائفية وعداوات قديمة. ويأتي رد أوباما بارسال مبعوثين يلقون محاضرات عن محاسن التفاوض واشراك الجميع في العملية السياسية.

وفي 19 آب (اغسطس)، اعلن وزير الدفاع تشاك هيغل أن نفوذ اميركا في مصر محدود، وحذر رئيس هيئة الاركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي من اتخاذ جانب طرف في الحرب السورية. ويرى مراقبون أن مثل هذه المواقف تستجيب لمزاج اوساط واسعة من الرأي العام في الولايات المتحدة، حيث اقل من ربع الاميركيين يتابعون احداث مصر عن كثب.

واظهر استطلاع جديد أجرته مجلة إيكونومست مع مؤسسة يوغوف أن 12 بالمئة فقط من الاميركيين يعتقدون أن لدى أوباما استراتيجية واضحة بشأن مصر، لكن هذا لن يكلف حزبه الكثير من الأصوات، فصور الأطفال السوريين وهم يختنقون ويلفظون انفاسهم الأخيرة بعد ضربهم بغازات سامة لم تهز المشاهدين الاميركيين كثيرًا، بحسب مجلة إيكونومست.

خطيئة الصمت

ولاحظ الباحث روبرت ساتلوف، من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن عددًا من المسؤولين الاميركيين ذوي المستويات المتوسطة استقالوا احتجاحًا على تقاعس الولايات المتحدة عن التحرك خلال حرب البلقان في التسعينات، وأن موقف أوباما بعدم التحرك إزاء ما يجري في سوريا مثلًا أدى إلى استقالات مماثلة.

وفي الوقت نفسه، سجل أوباما نقاطًا لصالحه في الكونغرس بتحسين علاقاته مع اسرائيل، وتمكين كيري من احياء محادثات السلام بين اسرائيل والفلسطينيين، ولذلك يتمتع بحماية من الأصوات التي تنتقد رفضه التدخل في سوريا.

كما تساعد حرب العراق وافغانستان على تفسير المزاج العام الذي لا يريد أن تحترق اصابع اميركا في حرب أخرى. لكن مجلة ايكونومست نقلت عن فريدريك هوف، الذي كان مسؤول الملف السوري في وزارة الخارجية الاميركية ويعمل الآن باحثًا في مؤسسة اتلانتك كاونسل، قوله إن ادارة أوباما مصابة بـ quot;عقدة العراقquot;، والحكومة الاميركية أسيرة نظرية ترى أن الولايات المتحدة ستبوء بالفشل في أي تدخل تُقدم عليه، رغم أن الضربات الجوية قد تعطل أو توقف بعض المجازر في سوريا.

وعلى النقيض من الاتهامات التي توجه إلى أوباما، فإنه في الحقيقة ليس اليد الخفية وراء ما يجري في الشرق الأوسط، بل على العكس. فهو يكره اتخاذ موقف جدي خشية أن يكون أي تدخل دمويًا وباهظ الثمن، لكن اتخاذ موقف جدي مطلوب في بعض الحالات، والوقوف موقف المتفرج خطيئة، بحسب ايكونومست.