نشرت وسائل إعلام عديدة هذه الأيام ومنها إيلاف (الاثنين 21 ديسمبر 2009) خبرا مفاده quot;ظهور مريم العذراء في مصر واحتشاد آلاف المسيحيين أمام كنيسة العذراء في منطقة الوراق في الجيزة الأسبوع الماضي. وفي العراق وصف عشرات الأشخاص مشاهدات لفارس في السماء يحمل سيفا وخلفه سيدة بوجه نوراني هي فاطمة الزهراء بحسب اعتقادات الذين حضروا الواقعة''.
وإننا نرى هنا ضرورة مراجعة الموضوع من ناحية علمية بعيدا عن التعصب المساند أو المضاد لمثل هذه الظواهر، خصوصا أنها تظهر في آفاق وأماكن محددة وليس شائعة في كل مكان من العالم، كذلك فإن شهودها أو quot;مدعيهاquot; هم قلة ومن أنصار نفس الأفكار والمعتقدات الدينية والمذهبية.
وللأسف فإن التناول العلمي قليل لمثل هذه الظواهر، كونها غير شائعة كثيرا ويختص بها أشخاص وفئات وبيئات اجتماعية معينة، وهي ليست كالظواهر الطبيعية التي تتكرر في كل زمان ومكان دون أن تتأثر جراء تغير الظروف، ولا تتكرر دوريا، كما يصعب توثيقها بالصورة بشكل واضح حتى بالوسائل الحديثة.
بحثا عن تفسيرات علمية، نلخص مبدئيا التفسيرات التالي:

أولا: تأثير القدرات الخارقة للإنسان (باراسايكولوجي)

ثانيا: الخداع البصري (Optical illusion)

ثالثا: السايكولوجيا الجمعية للمؤمنين

رابعا: العامل المفتعل

ففيما يتعلق بعلم القوى الخارقة (باراسايكولوجي parapsychology)، فإن هناك العديد من القدرات فوق الطبيعية للإنسان عامة وهي تتفاوت من شخص لآخر، مثلما هي غير مستغلة على أكمل وجه. ومن هذه القدرات، تحريك الأشياء من مكانها أو كسرها، وإصابة العين (الحسد) والتخاطر والإيحاء (أي قدرة قيادة الآخر والتأثير في رأيه من خلال الإيحاء له بما تريد) وغيرها.
لقد شاهدت على موقع يوتيوب، مقاطعا معروضة لـquot;تجليquot; السيدة العذراء الأخير في مصر وفي سوريا تم تصوير تمثال للسيدة العذراء وهي تحرك شفتيها وكأنها تتكلم.
وفي حالة مصر فإن ما ظهر هو عبارة عن ضوء إيحائي، بسطه البعض بأنه إنارة بالليزر. والحقيقة أن مثل هذه الحادثة يمكن وجودها بسهولة متناهية في السينما والمسرح بصفة مؤثرات ضوئية أو خدع سينمائية. لكن أن تكون على الهواء الطلق وعلى قبة كنيسة، فهو أمر يستحق التوقف كثيرا. وهنا يمكن أن يكون بفعل تدخل عامل بشري من مكان مجاور باستخدام أي جهاز يبعث إنارة وربما بطريقة (سلايد) أي تمرير صورة أمامه.
كما يجب ألا يغيب عن بالنا أن هناك بعض الأجهزة الالكترونية باتت توظف في استخدامات متعددة، منها مثلا بعض أقلام الليزر، يمكن أن تستخدم كسلاح فعال في إسقاط الطائرات من خلال توجيه أشعته باتجاه الطيار حيث تؤثر على عينيه. أو توظيف أجهزة الهاتف النقال (الموبايل) في التسجيل الصوتي والصوري وعمليات تفجير القنابل عن بعد وغيرها. هذا ناهيك عن دور أجهزة الأقمار الاصطناعية في إدارة حياتنا اليومية من خلال العديد من العمليات السلمية والحربية، الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فما الذي يمنع من توظيف بعضها من قبل جهات ما، من أجل غايات معينة. هذا على سبيل الإفتراض وليس الإنكار، ونحن في عداد البحث وليس التفنيد.
أما في العراق وبخصوص المسألة المتعلقة بـquot;ظهور فارس في السماء يحمل سيفا وخلفه سيدة بوجه نورانيquot;، فإن أقرب تفسير إلى ذلك هو مسألة الخداع البصري (Optical illusion) والتي تشير إلى إيجاد أكثر من صورة للوحة أو المشهد البصري الواحد. ويعده البعض توهما أو خداعا بصريا (لاحظ الصور المرفقة على سبيل المثال). وبغض النظر عن كونه فن قائم الآن، فإن أمثلته يمكن أن نجدها في الطبيعة أيضا من خلال التركيز على صورة مكان محدد تغطيه العين، مثلا على بقعة معينة من سجادة الأرضية أمامك، أطل النظر فيها ستجد أكثر من صورة. ويساعد على ذلك التوهم عملية تداخل الضوء والظل عادة أو وجود أشكال وتقاطعات هندسية مختلفة. كذلك في أحوال التغيرات الجوية مثل البرق والرعد والمطر وغيرها مما يخلقها التفاعل الفيزيائي لعناصر الطبيعة من غازات تبعث بألوان مختلفة تخلق صورا يمكن توهمها، أبسط مثال فيها هو قوس قزح. ومن باب المصادفة أيضا يمكن أن ترسم أشكال معينة منها على سبيل المثال صورة لسحب في السماء تظهر ما بينها خارطة العراق يتم تداولها عند بعض العراقيين، قد تكون مفتعلة باستخدام برنامج فوتوشوب، أو مصادفة كما ذكرنا.

وقد يتحول الخداع البصري إلى مشهد جماعي حينما يتم نقل الصورة ذهنيا قبل وقوع العين عليها، أي ينقلها شخص إلى آخر افتراضيا مستبقا نظره. وهذا يدخل في باب الإيحاء أيضا، حيث يمكنك نقل الصورة التي في مخيلتك أو التي فهمتها إلى الآخر، وحينما يطالعها فإنها تبدو له كما نقلت.

حدث لي موقف شخصي وقتما كنت تدريسيا في كلية الآداب بزوارة في ليبيا إبان تسعينات القرن الماضي، حينما نادى علي بعض الطلبة وأنا في باحة الكلية لأشاهد ما كان يثير عجبهم في جهة ما من أحد ساحاتها، حيث وجود حفرة في أرض عشبية مغطاة بشبكة عنكبوت وقش تظهر على هيئة معينة كما وصفوها لي مقدما، وحينما حضرت واطلعت عليها، كررت النظر فوجدتها بصورة مغايرة. فقلت لهم لننادي أشخاصا آخرين دون أن نعلمهم بما تمثله الصورة، ونسألهم مالذي تجسده، فحدث إن جاءت الإجابات متباينة، ساعتها تيقنا إنه مجرد خداع بصري.
من جانب آخر فإن المسائل الروحية والإيمانية العقيدية اشد تأثرا وتقبلا سواء في عملية الإيحاء أو الخداع البصري من غيرها، وهي أكثر انتشارا في بيئات المؤمنين من غيرها، خاصة إذا ما توافقت مع روايات وعقائد تؤمن بظهور رموز دينية في السماء وفي الطبيعة عامة. كما وتزدهر في المناطق التي تعيش أزمات أمنية واجتماعية واقتصادية. وبهذا فهي تتجلى للمؤمنين بها اشد من غيرهم.
مرة أخرى لا نريد بهذا أن نفند معجزات السيدة العذراء وكرامات السيدة الزهراء ومسألة وجود الإمام المنتظر من عدمه، فهي مسألة أخرى وبحث آخر. وان وجودهم وقيمتهم وتأثيرهم لا تحتاج إلى معجزات من هذا النوع في زمن يصعب جدا فيه تصديق حدوث أي معجزة. وعلى قول أستاذ علم الاجتماع العراقي د. علي الوردي quot;لعل الله يعلم أن البشرية على أعتاب مرحلة جديدة يصعب معها تصديق أي معجزة من نبي، فجعل ختام النبوة بمحمدquot;. ذلك بسبب quot;معجزات العلم الحديث وما أتى به ولازال يجود علينا يوميا بالجديد.

quot;وما أوتيتم من العلم إلا قليلاquot;.

* د. حميد الهاشمي، مختص بعلم الاجتماع:
[email protected]