يظل تاريخ العمل القومي المعاصر حافلا بصور متناقضة وساخنة لطبيعة العلاقات البينية بين نظامي البعث البائد في العراق وذلك الذي ينتظر في الشام، وهي علاقات ( خطرة ) شكلت على الدوام هاجسا وأرقا مستمرا للنظام السياسي العربي بشكل عام وللمنظومة الإقليمية عموما ولأوضاع الشعبين العراقي والسوري بشكل خاص، فبرغم أن وحدة العقيدة السياسية والنظرة الآيديولوجية المشتركة نظريا التي كانت تجمع قيادتي البلدين طيلة ستينيات وسبعينيات وثمانينيات و تسعينيات وشطرا من الألفية الثالثة إلا أن صيغ وصور العداء كانت هي الشكل الطافي والمكرس لطبيعة تلك العلاقات المتأزمة التي وصلت بل تجاوزت مرحلة كسر العظم فيما بينهما قبل أن تتكفل التطورات الدولية بإنهاء وحسم الملف بشكل حاسم دون أن تتمكن من إزالة الحساسيات بين البلدين والتي دخلت في منعطفات أخرى ومتبادلة، فمنذ 23 شباط/ فبراير 1966 وإنقلاب أهل اللجنة العسكرية من البعثيين السوريين على قيادة ميشيل عفلق القومية ( مؤسس حزب البعث ) والإطاحة الدموية بنظام حكم الرئيس السوري السابق أمين الحافظ وقيام حكم الضباط الشباب ( وقتذاك ) في اللجنة العسكرية كصلاح جديد ومحمد عمران وحافظ الأسد وعبد الكريم الجندي كان تاريخ وكيان حزب البعث العربي الإشتراكي قد إتخذ مسارا مختلفا ستترك تلك التطورات تأثيراتها القاتلة عليه خصوصا بعد إنشقاق الحزب بين تيار يساري قام في دمشق وبين تياريميني محافظ قام بعد سنتين في بغداد وكان يحمل نزعة وعقيدة الثأر والإنتقام من البعث ( التحريفي ) السوري بعد أن لعبت لعبة المصالح الدولية لعبتها وهيأت الإمكانيات اللازمة لإستلام حزب البعث الصغير والمعزول في العراق دفة السلطة في 17 تموز/ يوليو 1968 بعد إنقلاب القصر الذي أطيح فيه بآخر رئيس عراقي مسالم لم تتلوث يداه بقتل الناس ولا بسرقة البلد وهو المرحوم عبد الرحمن عارف، وكان إنقلابا دراماتيكيا في طبيعته وهويته والمفاجآت التي حملها والصراعات التي ضمها بين جناحيه!،
لقد كان إنقلابا مثل صراع المصالح البريطانية والأمريكية على توجيه دفة الأوضاع في العراق! مما دفع نظام البعث السوري لمحاربة ذلك النظام منذ أيامه الأولى لأنه وجد فيه منافسا شرسا سيعقد الأوضاع الإقليمية وسيدخل المنطقة في توجهات معينة، فبدأ الصراع الإقليمي الشرس في واحدة من أعقد مراحل تاريخ إدارة الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط ولجأ البعث العراقي بدوره لحملة أمنية شرسة لإستئصال المتعاطفين مع البعث السوري الذي إستطاع رجاله التغلغل في عمق المؤسسة البعثية العراقية و لكن سلطة القمع كانت أقوى منهم بكثير وشهدت الساحة العراقية تصفيات واسعة و هربت جموع من البعثيين العراقيين صوب دمشق وشكلوا هناك قيادة قطرية وقومية لا تعترف بقيادة عفلق/ البكر/ صدام وظل التربص هو الذي يطبع علاقة البلدين اللذين تدهورت علاقتهما للحضيض مع تصاعد مشاكل النزاع على حصص مياه نهر الفرات وعلى موضوع مرور النفط العراقي نحو الموانيء السورية على البحر المتوسط وحول دعم المعارضة العراقية في سوريا وكانت آنذاك تتكون من البعثيين اليساريين والقوميين وبعضا من الشيوعيين وظل الوضع متدهور بين البلدين حتى جاءت حرب السادس من تشرين أول / أكتوبر عام 1973 ودخلت سوريا الحرب في الجولان و تأزم موقفها العسكري وتدخل الجيش العراقي لحماية العاصمة السورية من السقوط بعد إنهيار حدة وزخم الإندفاع العسكري الأول وقيام إسرائيل بهجومها المضاد ولعب الجيش العراقي دورا مركزيا ومحورا في رد المدرعات الإسرائيلية حتى وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر والذي إستغله النظام العراقي لسحب قواته من الجبهة السورية بعد سلسلة من الإتهامات التي تحمل طابع المزايدة أكثر من الجدية، وبقي التربص سيد الموقف حتى جاء التغير المفصلي في المواقف مع زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات للقدس في 17 نوفمبر 1977 وحيث بدأ شهر عسل بين نظامي البعث الأعداء لم يدم طويلا رغم توقيع ( ميثاق العمل القومي المشترك ) بداية عام 1978 والإتفاق المبدئي على تحقيق وحدة حزبية ودستورية بين البلدين مع تجاوز مسألة الخلاف العقائدي الكبير حول الموقف من قيادة عفلق القومية الذي ظل مسألة معلقة ولكنه لغم خطير إستغله خير إستغلال نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ورجل النظام العراقي القوي وقتئذ صدام حسين الذي دخل منذ تلك الفترة في صراع علني وساخن مع الرئيس العراقي السابق أحمد حسن البكر الذي كان يمتلك في أخريات أيامه رؤية مختلفة بالكامل عن رؤية نائبه القوي الذي كان يعزز مواقعه القيادية في الحزب و الدولة ويزحف بإصرار واضح لحسم السيطرة النهائية على السلطة في العراق لصالحه بالكامل مهما كان الثمن! فكان الرئيس أحمد حسن البكر من أشد المتحمسين لملف تحقيق الوحدة السياسية و الإندماجية الكاملة مع سوريا على العكس تماما من نائبه القوي صدام، كانت رؤية البكر تتمحور حول أن الوحدة مع سوريا هي موضوع ستراتيجي وجوهري للعراق، فالعراق سوف تمتد حدوده لسواحل البحر المتوسط وفي ظل حالة واضحة من الإزدهار الإقتصادي وقتذاك إذ كانت قيمة الإحتياطي الستراتيجي للعراق من العملات الصعبة تبلغ حوالي 87 مليار دولار أمريكي بأسعار تلكم الأيام ! إضافة إلى الدخل اليومي من عوائد البترول والذي كان يتراوح بين 120 إلى 200 مليون دولار!
فكان البكر يؤكد على أهمية وحيوية القوة الإقتصادية في تحويل العراق للرابح الأكبر في مسألة الوحدة مع سوريا وبما يمكنه من أن يكون قوة إقتصادية وسياسية فعالة ومؤثرة في المنطقة، وكان مشروع البكر يتمحور حول بناء كيان إقتصادي متين والإنفتاح على العالم وتحويل البصرة لمنطقة تجارية وإستثمارية حرة والشروع بتحويل شمال العراق لمنتجع سياحي وإقتصادي وإستثماري يجلب رؤوس الأموال الخليجية والدولية مع الإبتعاد عن الإغراق في سياسة التسلح المبالغ بها وكان البكر يؤكد أيضا وقتذاك من أنه في ظل بحبوحة إقتصادية لا توجد أية مخاوف من إحتمالات إنقلابية وهو ماكان يؤرق تفكير صدام حسين!! الذي لم تكن تعنيه أفكار البكر الإصلاحية والإقتصادية، كان الرئيس البكر يقول في آخر إجتماع لمجلس قيادة الثورة عام 1979 قبل إبعاده بأن الفرصة سانحة لإيقاف هجرة العامل العراقي نحو دول الخليج العربي خصوصا، وقد إنفجر صدام حسين غاضبا وهو يرد بعصبية على طروحات البكر وحماسه الوحدوي بالقول بالنص إستنادا لرواية أحد الشهود من الحاضرين والذي إحتفظ بإسمه وهويته للزمان:
( ماهذا الهراء.. وماهذا الكلام الذي لا معنى له.. هذه دول الخليج تمتلك مليارات ولكنها ترتعد خوفا من الشاه الإيراني (السابق ) بسبب قوته العسكرية فقط..!.. أما موضوع الوحدة مع سوريا فإن ذلك معناه إن العراق سوف يتحول لمحافظة سورية وسيكون حافظ أسد هو من يأمر وينهي! و إن هذا الرجل أي حافظ الأسد هو ثعلب يعد عدته ليستولي علينا بمشروعه الوحدوي.. إنه أخبث رجل على سطح الأرض!!.. أنت خاطيء يا سيادة الرئيس صحح أفكارك وإعد حساباتك.. إنك تسعى بالعراق إلى أن يكون ذيلا تابعا.. الوحدة تتم بالمدفع وليس بالدولار.. ألم يفتح العرب العالم من الهند إلى الأندلس بحد السيف وليس بالأصفر الرنان.. إنك با سيادة الرئيس تفكر بعقلية التاجر الذي يخاف على دنانيره من الضياع..! وهنا وقف الرئيس البكر والغضب يملؤه وقبل أن يغادر مكان الإجتماع وجه كلمات غاضبة بإتجاه صدام حسين قائلا له إنك تسعى إلى خراب البلد.. مع السلامة..)!.
ومن هذا الموقف بالذات بدأت التداعيات المعروفة وأبعد الرئيس البكر عن السلطة بإنقلاب داخلي وهيمن صدام حسين على السلطة بالكامل في 16 تموز/ يوليو 1979 وأغلق ملف الوحدة نهائيا مع سوريا وتم إعدام الرفاق الذين سعوا لها وتحولت السياسة العراقية بشكل جذري نحو النهايات الكارثية المعروفة.. وهو ما سنتابعه في مقالات قادمة.....
التعليقات