في متغيرات اللعبة السياسية في العراق فخاخ كبيرة وشراك متنوعة و أدوات لعب عديدة و ألأهم من هذا وذاك وجود مشاريع إقليمية ودولية متعددة ترسم سيناريوهاتها بتؤدة وتطبخ مشاريعها على نار هادئة من أجل تحقيق الأهداف المطلوبة للأطراف الإقليمية و الدولية الفاعلة في العراق وخصوصا الطرف الإيراني الذي يعتبر العراق جائزته الكبرى في اللعبة الشرق أوسطية و مجاله الحيوي الأرحب و الأكثر تأثيرا في المنطقة، ولعل متابعة بعض التحولات التكتيكية في المواقف لبعض من أهم حلفاء بل أبناء النظام الإيراني في العراق يوفر للمرء و المراقب فرصة متابعة تاريخية للمشاهد السياسية المتحولة في العراق، فالمواقف المتحولة من عملية إدارة الصراع الداخلي في العراق التي يقودها رئيس المجلس الأعلى السيد عمار الحكيم تثير حيرة المراقبين و المطلعين على الوضع العراقي خصوصا بعد أن بدأ السيد عمار الحكيم بتغيير نغمة و أسلوب و لغة مواقفه السياسية وهو تغيير أثار علامات إستفهام كبرى، فرئيس المجلس الأعلى الذي وصل للرئاسة عن طريق التوريث العائلي بعد وفاة والده المرحوم السيد عبد العزيز الحكيم و الذي إستلم الرئاسة أيضا بعد تنازل شقيقه المرحوم السيد محمد باقر الحكيم بسبب تصديه للشؤون الدينية و المرجعية بعد سقوط نظام صدام حسين و عودته للعراق في ربيع عام 2003، هو في الأساس نتاج للحقبة الإيرانية في المعارضة العراقية، كما أن المجلس بدوره منذ أن تأسس عام 1981 بناءا على رغبة الإمام الإيراني الراحل الخميني كان مؤسسة سياسية و عقائدية إيرانية الولاء و المرجعية و التاسيس و التنفيذ و كان تعبيرا عن هيمنة النظام الإيراني و مؤسساته الدستورية و المرجعية على قوى المعارضة الدينية و الطائفية العراقية، وجاء تنشيط دور المجلس لسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الدينية وخصوصا حزب الدعوة الإسلامية الذي دخل في أوائل ثمانينيات القرن الماضي مراحله الإنشقاقية الأولى التي هشمته و حولته لمجموعة من الدعوات بسبب تدخل الإيرانيين التام في أموره و امور المعارضة الإسلامية الشيعية بوجه عام، وعمار الحكيم في النهاية كان في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ المعارضة العراقية طفلا صغيرا لم يشترك في الترتيبات التي كانت قائمة و لم يشارك في الصراعات السياسية ولا في المعارك العسكرية في جبهات الحرب المستعرة وقتها مع العراق و التي ظهر خلالها ( لواء بدر ) أو ( لواء التوابين )!! الذي إكتسب إسمه من التراث الشيعي في تذكير لحركة التوابين التي قادها سليمان بن صرد الخزاعي ضد الأمويين في عصر مروان بن الحكم والذين ثاروا لأخذ الثأر لمصرع الإمام الحسين ( رض ) و أهل بيته في كربلاء عام 61 هجرية، وكانت الحركة أي ( لواء التوابين ) تتكون من أسرى الجيش العراقي من الضباط و المراتب الذين وقعوا في الأسر خلال معارك تلك الحرب الشرسة و الذين تم تجنيدهم في معسكرات الأسر و إخضاعهم لبرنامج غسيل دماغ إيراني مركز كان والد عمار السيد عبد العزيز الحكيم هو أحد المسؤولين المباشرين عن ذلك البرنامج وحيث شارك الأسرى العراقيون السابقون في المعارك و الهجمات الإيرانية في العمق العراقي و التي إستمرت من 14 تموز/ يوليو 1982 في عمليات شرق البصرة وحتى نهاية الحرب في عام 1988 حينما تصدى فيلق بدر و قوات المجلس الأعلى لهجمات عسكرية من المعارضة الإيرانية المسلحة في منطقة قصر شيرين أو في القاطع الأوسط من العمليات!
وحيث قدم الأسرى العراقيون السابقون خبراتهم العسكرية لصالح الجانب الإيراني و بعد نهاية الحرب ودخول النظام الإيراني في مرحلة التطبيع الحذر مع نظام صدام حسين تجمدت الأمور و شهدت الأحزاب الدينية موجات واسعة من الهجرة لأصحابها صوب دول العالم من أوروبا و أمريكا غربا و حتى إستراليا شرقا بسبب الإحباط الذي أصاب المشروع الديني في العراق بسبب فشل الإيرانيين في مشروعهم العسكري و السياسي الكبير في ( فتح كربلاء و إسقاط نظام صدام بالقوة الإيرانية المسلحة )! و لكن بعد تغيير قواعد اللعبة و إدارة الصراع الإقليمي بسبب الغزو العراقي لدولة الكويت صيف عام 1990 برز بصيص أمل في تنشيط إيراني للخلايا الساكنة أو المتبقية منها وهي التي شاركت في أحداث الإنتفاضة الشعبية في جنوب العراق في ربيع 1991 بعد الهزيمة العسكرية العراقية في حرب عاصفة الصحراء و تحرير الكويت و لكن القرار الدولي وقتذاك لم يكن يشمل إسقاط النظام في بغداد بسبب الخوف من حالة الفراغ القيادي العراقي ولعدم الإطمئنان الأمريكي خصوصا لترتيب الأوضاع العراقية مما أخر عملية إحتلال العراق أمريكيا لمدة إثنا عشر عاما قادمات أي لثلاث فترات رئاسية أمريكية هي فترات حكم الرئيس بيل كلينتون ثم الشطر النهائي من فترة جورج بوش الإبن الأولى، خلال تلك السنوات و أحداثها الجسام و الخطيرة تغيرت الكثير من المعطيات و دخلت المعارضة الدينية السابقة العراق بعد الإحتلال ألأمريكي و تعاملت مع الإحتلال بمنطق المصلحة و الواقعية و لم تمنع الإرتباطات الإيرانية أهل المجلس ألأعلى من المشاركة في الترتيبات التي سبقت إحتلال العراق مثل مؤتمر لندن في نهاية عام 2002 ثم الإتفاق على الفيدرالية و على ترتيبات إقامة النظام البديل و ما جرى بعد ذلك من تشكيل لمجلس الحكم و بروز التحاصص و التقسيم الطائفي في عهد الحاكم المدني الأمريكي بول برايمر، وفي تلك الأثناء تم إغتيال مؤسس و رئيس المجلس الأعلى السيد محمد باقر الحكيم في تفجير رهيب في النجف لم تعرف العناصر الحقيقية التي وقفت خلفه وكل ما قيل عن مسؤولية جنائية لجماعة القاعدة يعتقد بأنها غير صحيحة بالمرة فقد رحل الحكيم بعد ان اعلن تبرمه من المشروع الإيراني رغم انه أحد أهم و أبرز رجاله!! و حل محله شقيقه السيد عبد العزيز الحكيم الذي لم يكن يمتلك المواصفات القيادية و لا الأسلوب الخطابي السلس في مخاطبة الجماهير، ولكن سرعان ما برزت شخصية السيد عمار الحكيم بأسلوبه المرن و بلغته الدبلوماسية الراقيةبعد أن كبر و شب عن الطوق إلا في عيون كبار العتاولة من الحرس القديم في قيادة المجلس الذين ساءهم تماما أن يتم إلغاء تاريخهم ودورهم أمام شاب قادم من عوالم الجاه و المال و المكانة الإجتماعية! و برغم الأقوال الكثيرة و الإتهامية ضد السيد عمار الحكيم في قضايا السيطرة على أراضي و منشآت في مدينة النجف و قضايا أخرى معروفة إلا أن بروزه بعد وفاة والده في العام الماضي و إستلامه السلس لرئاسة المجلس الأعلى قد وسع بطبيعة الأمور من مساحة الحانقين و المتبرمين، كما جاءت الخطابات السياسية الجديدة التي طرحها عمار الحكيم بمثابة بالون إختبار للجماعات الطائفية الأخرى ووضعته أمام تحدي تغييري حقيقي، فلو كان الأمر متعلق فعلا ببروز مشروع وطني عراقي مستقل بالكامل عن إرتباطات الماضي وحالات التخادم فسيكون لزاما على السيد عمار الحكيم التخلص التام و الإبتعاد النهائي عن صيغة المجلس الأعلى التي أضحت من الماضي و لا تتناسب إطلاقا ومستقبل العراق بعد المتغيرات الكبيرة التي حدثت فيه منذ الإحتلال الأمريكي، ولو كان عمار الحكيم لا يمارس تكتيكات إيرانية متفق عليها أو أساليب تمويه و مناورات سياسية يكون من الواجب المبادرة لتأسيس تجمع وطني عراقي جديد ينهي صيغة المجلس خصوصا و إن الإنسجام بين الطروحات المعلنة للسيد عمار وممارسات الإئتلاف الوطني العراقي باتت مفقودة بالكامل.. فهل يؤسس عمار الحكيم لمشروع وطني جديد يكون خارج إطار المحاصصة الطائفية و يخرجه بالكامل من الشرنقة الإيرانية و يحرره من كل إرتباطات الماضي التخادمية؟ أم تظل المناورات و لعبة الكر و الفر هي سيدة الموقف حتى تستوي طبخة الصراع الراهن على السلطة؟... لو كان السيد عمار الحكيم ينوي ترجمة أقواله لأفعال ملموسة فإن أول الأفعال هو إسدال الستار التام على صفحة المجلس الأعلى في العراق...
بعدها يكون لكل حادث حديث...؟!.. فليس بالأقوال اللامعة وحدها تساس الأمور؟.
التعليقات