كان الخطاب الذي ألقاه أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح، يوم الثلاثاء السادس والعشرين من أكتوبر 2010، حاسما بوضوح شديد يناسب الوضع الداخلي الكويتي في الشهور الأخيرة، وأهمية الخطاب أنه موجه للشعب الكويتي عامة من خلال انعقاد الدورة الجديدة لمجلس الأمة الكويتي، أي من خلال السلطة التشريعية التي يقع على كاهلها المسؤولية الأساسية في الحفاظ على الثوابت والمبادىء الديمقراطية، مما جعل دولة الكويت مثالا ديمقراطيا منذ خمسينات القرن الماضي، ومجرد انعقاد المجلس في دورته هذه تأكيد على ذلك، خاصة بعد سريان إشاعات مضللة روّجت لاحتمال حلّ المجلس وتعليق الحياة البرلمانية، وهذا الانعقاد تأكيد من أعلى سلطة في البلاد أنه لا خروج عن المسار الديمقراطي الذي هو من أهم مقومات مناعة المجتمع الكويتي.

أيهما أشد خطورة: الخطر الخارجي أم التفتت الداخلي؟

هذا السؤال موجه لكل الشعوب العربية التي تعاني من أزمات داخلية محتقنة، موجودة في السرّ وتظهر أحيانا كثيرة إلى العلن، متخذة في الغالب طابعا طائفيا وتحديدا بين المسلمين السنّة والشيعة. أعتقد أنه عندما تتعرض أية دولة لخطر أو عدوان خارجي فإنه في الغالب يتوحد الشعب بكامله ضد هذا الخطر العدواني، وللكويتيين تحديدا مثال عاشوه إبّان غزو جيش صدام للكويت عام 1990، فلم نجد كويتيا واحدا صفق للغزو وتعاون معه، بالعكس كان هناك رفضا وإدانة جماعية من كافة الكويتيين بغض النظر عن أصولهم وطوائفهم، لأنهم أدركوا أن هذا الغزو الاحتلالي يستهدفهم كلهم، لإلحاقهم بجمهورية صدّام الديكتاتورية التي لم ترحم الشعب العراقي نفسه بكافة طوائفه وأصوله.

وكذلك الاختلاف الداخلي فلا خوف ولا خطر منه إذا كانت خلفيته quot;سياسيةquot;، لأن الخلاف السياسي يعني أن الشعب بكامله تحت سقف واحد لكنه مختلف على بعض الأمور السياسية وتفسيراتها، التي يمكن الوصول لحد أدنى من القواسم المشتركة حولها من خلال الحوار، خاصة إذا كان الشعب يتمتع بسقف عال من الديمقراطية و برلمان نزيه الانتخابات كما هو في الكويت منذ تأسيسها القرن الماضي. ونتذكر دوما أن غالبية المسؤولين من وزراء وغيرهم، لا يخافون من سلطة كما يخافون من مجلس الأمة الكويتي الذي كان وما يزال قادرا على محاسبة أي مسؤول وجلبه للإستجواب في المجلس بغض النظر عن أصله وفصله.

أما الخلاف والتشرذم الطائفي،

فهو القاتل والخطر الذي من الصعب درئه ومواجهته، كما يحدث ويبرز للسطح أحيانا في دول مثل العراق والكويت والبحرين، متخذا علانية الصراع الديني بين (السنّة) و(الشيعة). إنّ الخلافات ذات الطابع الطائفي هي المدمرة لكل ما هو إنساني. وعلينا أن نتذكر مرارة التجربة الأوربية التي حصدت فيها الحروب الدينية عشرات الملايين من البشر، ودمرت مدنا بكاملها. يكفي للعظة أن نتذكر ما ورد في موسوعة قصة الحضارة من أنّ حرب الثلاثين الدينية في أوربا (1618 -1648 ) حصدت أرواح ما لايقل عن سبعة ملايين ألماني فقط، وقد دمّر الجيش السويدي وحده 2000 من القلاع الألمانية، و 18000 قرية و 1500 مدينة أي ثلث عدد جميع المدن الألمانية، إلى درجة أنّ بعض الأمراء والقساوسة وافقوا على تعدد الزوجات لتعويض هذه الملايين التي كانت غالبيتها من الرجال.
وقد طالت تلك الحروب الدينية الطائفية أغلب بلدان أوربا بما فيها فرنسا التي شهدت مذابح ومجازر رهيبة بين الكاثوليك والبروتستانت لم تخرج فرنسا من أتونها نحو التمدن والحضارة إلا بعد الثورة الفرنسية عام 1789.

لذلك ياتي تحذير أمير الكويت عاليا،

لأن الفتنة التي تطلّ برأسها من حين إلى آخر للأسف الشديد ذات خلفية طائفية بشكل علني، يعتتقد كل طرف فيها أنه ينتصر لدين طائفته، متناسين أنه دين واحد رغم اختلاف الاجتهادات والرؤى في بعض الأفكار والمواقف. وهذه الفتنة إن اشتعلت لن يكون المنتصر فيها أي طرف كويتي بل مخططات خبيثة لا تريد الخير للشعب الكويتي بكل طوائفه وأصوله، كما قال أمير الكويت بصراحة وألم شديدين: quot; إن ما يحوط المشهد السياسي العام من تجاوزات وممارسات غير مألوفة ولا مسؤولة هو موضع استنكار ورفض من الجميع ولا يمكن لأي عاقل أن يغفل عما ينطوي عليه ذلك من مخاطر جسيمة يصعب استبعادها او تحييدها عن مخططات خبيثة تستهدف الأسس الراسخة لأمننا واستقرارنا وتماسك مجتمعنا وما جبل عليه من قيم التسامح والاعتدال وقبول الرأي الاخرquot;. إنّ هذه المخططات الخبيثة كما أسماها أمير الكويت إن إنتصرت، فأصحابها لن يرحموا كويتيا سنّيا أم شيعيا، لأنّ أي مخطط خبيث أيا كان صاحبه وملته، فهو لا يسعى لخير البلد المستهدف بكل طوائفه، بل لنظام ذلك المخطط وأصحابه.

الديمقراطية الكويتية هي السبب

نعم إنّ هذه الفتنة الداخلية ذات الخلفية الطائفية، ما كان أصحابها أيا كانت طائفتهم يجرؤون على التمادي والتعدي على الطائفة الأخرى لولا أجواء الديمقراطية وحرية التعبير المتوفرة في الكويت منذ تأسيسها.هذه التجربة الديمقراطية التي كانت وما زالت مثالا نموذجيا في المنطقة العربية وجوارها غير العربي. لو كانت الكويت تعيش القمع ومصادرة حرية التعبير كما في غالبية ذلك الجوار، لسكت الجميع من كافة الطوائف خوفا وهلعا من السجون والمعتقلات التي هي في بعض تلك البلدان أكثر من المستشفيات. وهذا ما أكّده أمير الكويت صراحة وهو الأدرى بخلفيات ما يجري في وطنه، إذ قال: quot;وقد استغل البعض أجواء الحرية في التطاول على ثوابتنا الوطنية حتى أصبحت اساليب الاثارة والتشكيك والانفلات والتصرف غير المسؤول بديلا عن الاحتكام للقانون، وانساق الى ذلك من انساق بعلم او بغير علم حتى غدا الشارع وليس قبة البرلمان هو المكان لطرح القضايا والمشكلات الامر الذي يتعذر معه الوصول الى قرار صائب وسليم في ظل هذه الاجواء المشحونة ويدفع بنا الى تداعيات ونتائج بالغة السوء والضرر على مصلحة هذا الوطن وابنائهquot;.

وبصراحة أكثر وضوحا، فليتأمل الكويتيون من كافة الطوائف دول ذلك الجوار العربي وغير العربي، إن كانت السلطة في يدّ السنّة أو الشيعة، ويتأملوا حجم مصادرة حقوق الإنسان وقمع حرية التعبير في أغلب تلك الدول، عندئذ سيدركوا أنّ هذه الفتنة الداخلية إن انتصرت، لن تكون في صالح أيا منهم، بل في صالح القمع ومصادرة أبسط حقوق الإنسان، وسيكتوي بنارها المحرقة الجميع وطنا وشعبا.

ما الحل إذن؟

الحل سهل وبسيط وهو أن يعتصم الكويتيون أيا كانت طوائفهم وآراؤهم السياسية بحبل الديمقراطية والحرية المتاحة لهم، وينصرفوا عن اثارة الفتن لأن الديمقراطية المتاحة وطريقة تطبيق النظام لها، ومراقبتها من قبل مجلس الأمة، كفيل بتحقيق العدالة للجميع ومحاسبة وردع كل مسيء ومتعد وخارج على القانون أيا كانت طائفته. وفي الأساس إن الاعتصام بالديمقراطية والقانون ومجلس الأمة سوف يلغي نهائيا أي تفكير طائفي.

إنّ العدالة للجميع والقانون فوق الجميع، تعني إلغاء الطائفية تماما، لأنه لا يثير الطائفية إلا شعور طائفة ما بالتحجيم و الغبن ومصادرة الحقوق، وكل هذه السلبيات غير متوفرة نهائيا في الكويت، فالجميع سواسية أمام القانون، ومجلس الأمة الكويتي مشهود له في كافة أقطار العرب والجوار غير العربي، أنه سيف بتار في مواجهة التعديات والتجاوزات أيا كان صاحبها وخلفيته وطبقته. وضمن هذا السياق لا بد من وضع حلّ عادل وسريع لمشكلة (البدون )، لأنّ استمرار وجودها خلل لا يليق بالديمقراطية الكويتية ولا العدالة الإنسانية، إذ لا معنى ولا تفسير لوضع مواطن كويتي يعيش في الكويت أبا عن جد دون أن يحمل جنسيتها، ويتمتع بكافة الحقوق التي ينصّ عليها الدستور ويحميها مجلس الأمة. وما يثير التفاؤل لوضع حدّ لهذه المشكلة الإنسانية، هو أنّ الحكومات الكويتية السابقة، كانت قد طرحت بعض الحلول لمن يحملون ورقة الإحصاء لعام 1965، ثم طرحت على مجلس الأمة مشروعا لتجنيس ألفي شخص كل سنة ممن يحملون تلك الورقة وتمت الموافقة عليه. إنّ هناك حقوق إنسانية سابقة للحصول على الجنسية طالما الشخص مقيم إقامة رسمية ودائمة في البلد، منها الحق المجاني في التعليم والعلاج وفرص العمل على قدم المساواة مع المواطن الذي يحمل الجنسية. إنّ الإسراع في حلّ هذه المشكلة من شأنه أن يزيد التلاحم الشعبي الوطني في الكويت، ويبعد أي مواطن عن أن يكون هدفا أو في خدمة أي مخطط خبيث، لأن العدالة والكرامة الشخصية من أهم مقومات الإنتماء للوطن والدفاع عنه، ولنا في قصة عنترة العبسي عبرة يا أولي الألباب.

يا شعب الكويت..أفيقوا قبل فوات الأوان!!

أكتب هذه المقالة بانفعال شديد، لأنني عشت وعرفت نعمة التجربة الديمقراطية الكويتية لما لا يقل عن عشر سنوات في ستينيات و سبعينات القرن الماضي، وبالتالي فنحن كعرب بحاجة لتأصيل هذه التجربة لا مصادرتها، كي تبقى نموذجا يحتذى ويتم تقليده. وليدرك الكويتيون أنّ نتائج هذه الفتنة إن نجحت ( لا قدّر الله والشعب الكويتي)، لن تكون إلا في صالح أخطار خارجية تتربص بالكويت شعبا ووطنا وديمقراطية، كي تلتحق بذلك القمع ومصادرة الحريات.
[email protected]