في اليوم الثالث لعيد الأضحى المبارك، ومن دون أي اعتبار لحرمته، حلقت طائرتان حربيتان تركيتان فوق سلسلة جبال قنديل مخترقة بذلك أجواء جنوب كردستان ومنتهكة للسيادة العراقية في آن معاً، وذلك في استفزاز مكشوف لمشاعر الشعب الكردي أقدمت عليه حكومة رجب طيب أردوغان quot;المسلمةquot;. وقبل هذا الحادث بأيام قلائل تردد بأن لجنة قد شكلت لترسيم الحدود بين تركيا والعراق وسط تعتيم إعلامي لأكثر من طرف. علماً أن الترسيم سبق وأن أثير قبل نحو شهر، وكان الدكتور محمود عثمان عضو المجلس الوطني العراقي عن التحالف الكردستاني الوحيد الذي إنبرى محتجاً على ضم محتمل لأراضي في جنوب كردستان إلى تركيا. ومن الواضح أن المتضرر الوحيد من وراء تعديل الحدود سيكون الشعب الكردي، ولما كانت الحكومة العراقية على درجة من الضعف والهزال لن تستطيع معه رفض الأطماع التركية، فأن الترسيم أو التعديل والتفريط بالأرض الكردية لا محالة، وثمة خلفية لهذا التفريط على يد حكومات عراقية سابقة، ففي عام 1975 وفيما بعد أيضاً، أقدم نظام حزب البعث على سلسلة من التنازلات عن الأرض العراقية بدأت بالتنازل عن نصف شط العرب وأراضي ديمية لإيران بموجب اتفاقية الجزائر التي وصفت بالخيانية بين شاه إيران وصدام حسين وبعد حرب الخليج الثانية، نفذ ذلك النظام خطوة مماثلة حين تنازل لأراضي عراقية للكويت والسعودية والأردن وسوريا تتالياً، ولم يخطر ببال أحد أنه سيأتي يوم يهب العراق تركيا بما لا يملك. وإذ أقول بما لا يملك، أقصد الأرض الكردستانية التي تبدو أن التنازل عنها في غاية السهولة أو البساطة.

بالمقابل، ان تركيا التي لا تقيم وزناً لجارها العراق، وتخاطب الكرد باستعلائية وعنجهية، نجدها تتلقى الصفعات تلو الصفعات من اسرائيل وكأن عن طيب خاطر.

حين تصدت إسرائيل لاسطول الحرية التركي ووقع جراء ذلك عدد من القتلى والجرحى وأرغمت الاسطول على تغيير اتجاهه، حذر أردوغان اسرائيل من مغبة التمادي في اختبار quot;الصبر التركيquot; ذلك التحذير الذي أوحى بعملية عسكرية تركية وشيكة ضد اسرائيل على خلفية عمليات ضد جارات لها في السابق، إلا أنها نسيت أو تناست quot;نفاذ الصبرquot; إذ اتصل وزير خارجيتها بعد أيام من الحادث سراً بوزير التجارة الإسرائيلي بهدف إصلاح ذات البين والعودة بالعلاقات بينهما إلى سابق عهدها. ولكن بمضي أيام قلائل أيضاً على ذلك الاتصال وإذا بتركيا تتلقى صفعة أخرى من اسرائيل عندما رفض بنيامين نتنياهو تقديم إعتذار إليها مصحوب بتعويضات نزولاً عند طلب تركي حيث اعتقد الأتراك. إن تداعيات إهانة السفير التركي لدى اسرائيل التي توجت باعتذار اسرائيلي، والعهدة على الرواة، يمكن أن تتكرر وتحفظ ببعض من ماء الوجه لتركيا، وقد يكون ذلك الاعتذار قد زين لتركيا تحريك ذلك الاسطول.

وعلى ذكر تلك الإهانة، فأن الاعتذار الاسرائيلي، كان دون مستواها، فالإهانة كانت بالصوت والصورة وبدا الاعتذار الاسرائيلي وكأنه quot;الاعتراف بالخطأ فضيلةquot;. إذ ليس كل اعتذار ضعفاً أو هزالاً كما يذهب الاعتقاد ببعضهم. ومن هذا البعض الأتراك بلا شك. عليه فأن سكوت تركيا على حادث اسطول الحرية حط من مكانتها ومنزلتها بشكل لافت هذا ما نسبته فضائية كردية إلى الرئيس السوري بشار الأسد يوم 18 ndash; 7 ndash; 2010. وأغلب الظن، أن تلك الإهانة كانت مقصودة وليس لإختبار الصبر التركي، بل لإشعار تركيا بالكف عن التوجه نحو خندق أعداء اسرائيل خصوصاً والغرب عموماً. ولكن لندع جانباً أعداء مطالبة تركيا لاسرائيل بتقديم اعتذار مرفق بالتعويضات ورفض الأتراك الاعتذار للأرمن، عن إبادتهم لأكثر من مليون أرمني في القرن الماضي، ولنعد إلى quot;الصبر التركيquot; الذي كان سرعان ما ينفد إزاء جارات لتركيا في الماضي والأمثلة على ذلك كثيرة، وقبل عرضها أقر بنقص يعتري عنوان المقال، إذ الأصح بوجه الكرد وجارات لها، أي لتركيا.

في عام 1962 أغارت طائرة حربية عراقية خطأً على قرية تركية في إطار العمليات الحربية العراقية ضد الثوار الكرد العراقيين، فما كان من المقاتلات التركية إلا القيام بمطاردة الطائرة العراقية واسقاطها داخل الأراضي العراقية بالقرب من بلدة quot;شقلاوةquot; بمحافظة أربيل. وهكذا جاء رد الفعل التركي أكبر من الفعل العراقي اللا متعمد. وفي مطلع السبعينات من القرن الماضي شهد العالم استخداماً مفرطاً للقوة من جانب تركيا ضد اليونان، وهنا أيضاً كان رد الفعل التركي أقوى من الفعل اليوناني بما لا يقاس. وفي نهاية العقد الأخير من القرن الماضي، هددت تركيا سوريا باجتياحها عسكرياً مالم تٌخرج الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من أراضيها. ومنذ عام 1983 وعلى أثر توقيع اتفاقية عسكرية بين تركيا والعراق التي سمحت للطرفين بملاحقة الثوار الكرد على جانبي الحدود بينهما، فان تركيا تقوم بين فترة وأخرى بقصف القرى الحدودية العراقية ملحقة أفدح الأضرار بالقرويين الكرد، الأمر الذي لم يقم بالمثل الجانب العراقي، ما يعني أن تركيا أملت تلك الإتفاقية على العراق بالقوة.

لو كان ما يشبه الفعل الاسرائيلي أو دونه بكثير من تركيا، صادراً عن سوريا أو العراق أو حكومة اقليم كردستان أو أرمينيا، لكانت أنقرة تقيم الدنيا ولا تقعدها، ولكالت الصاع ليس صاعين فحسب بل صاعات إن جاز القول ضد تلك الحكومات، إلا أنها تجاه الصفعة أو الصفعات الاسرائيلية تحولت إلى حمامة وديعة وتدير الخدين للصفعات تلك. وبهذا فأنها تحولت في نظر شعوب المنطقة بعد الحادث المذكور إلى quot;نمر من ورقquot; حسب توصيف الصينيين للاستعمار في عقد الستينات من القرن الماضي. كما وصغرت في عيون العرب والمسلمين باستثناء السذج منهم، الذين صفقوا خطأً ولفترة لأنقرة وباتو وهم محقون يتعاملون بحذر ممزوج بالندم مع السياسات التركية. بعد أن تأكد لهم سعي الأتراك للتوفيق بين المتناقضات العرب ndash; الاسرائيليين، المسلمون ndash; الغربيون، العراقيون والسوريون، خدمة لمصالحهم وعلى حساب مصالح شعوب المنطقة. فهم، أي الأتراك عين على البقرة الحلوب، العراق وسوريا وكردستان العراق التي دخلت معها في اتفاقيات تجارية لا تحصى تساعد الاقتصاد التركي الذي كان آيلاً إلى الانهيار. للوقوف على قدميه ولو لأجل محدود، وعين على الاتحاد الأوروبي كي يقبل بهم عضواً في ناديه.

في كل الأحوال، تظل الإهانة التي تلقتها على يد اسرائيل تلاحقها وتدني بها أكثر نحو الحضيض. وسيبقى حادث اسطول الحرية كقصة ذات نهاية مفتوحة، في كل حلقة منها، إذلال وصغار لها. وبالمقابل تبقى تركيا ذلك النمر الذي يفترس الكرد، وجارات تركيا، إلا أن الوقت قد حان للإثبات من أنها، نمر من ورق، في حال تضامنت شعوب المنطقة، ضد اختراقاتها وانتهاكاتها وحرب المياه التي لم تبق على شنها ضد سوريا والعراق سوى أعوام قلائل.

[email protected]