بدأت تركيا منذ نحو ثلاثة أشهر في مراجعة توجهاتها الإسلامية / العربية كما يكرسها وزير خارجيتها احمد داود أوغلو من جانب ومصالحها مع الولايات المتحدة التي أصابها الانكماش إلي حد ملحوظ في الآونة الأخيرة من جانب آخر.. وكان مرتكز هذه المراجعة : هل في وسعها تحمل مزيد من الخسائر إن هي واصلت سياسات المعاندة مع واشنطن أم أن مصالحها العليا تفرض عليها إعادة النظر في مجمل مسارات علاقات الطرفين ؟؟.. ثم حسمت موقفها ووقعت في لشبونة منذ بضعة أيام علي اتفاقية quot; شبكة الدفاع الصاروخية الباليستية / الأوربية والأطلسية quot; التي قررت قمة حلف شمال الأطلسي ndash; التي عقدت مؤخرا - أقامة جزء منها فوق أراضيها quot; كمنظومة دفاعية quot; لحماية أهداف دوله الأعضاء ومصالحهم في هذه منطقة الشرق الأوسط الكبير..

هذه الدرع كانت إلي وقت قريب مشروعاً أمريكياً خالصاً اعترضت عليه روسيا حتى تمكنت بعد نهاية ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن من وقف العمل به، ثم لما اقتربت منها إدارة الرئيس باراك أوباما و تبادلت معها الرأي حول quot; دواعي quot; ضرورة التعاون فيما بينهما من ناحية وضمن مخططات حلف شمال الاطلسي من ناحية ثانية للحد من quot; تمدد وتنامي الإرهاب العالمي وتصاعد المخاطر التي تمثلها الدول المارقة quot;.. قبلت موسكو المشاركة بعد أن أطلعت علي الارتباطات الثنائية بين أمريكا وكل من بولونيا وتشيكيا وبلغاريا ورومانيا واطمأنت إلي عدم تعرض أمنها لأي مخاطر من جانب كل منها..

علي الجانب الآخر كانت السياسات التركية تبدي اختلافاً بيناً مع واشنطن في مجالين علي درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لمستوي التحالف الإستراتيجي بينهما..
الأول.. سياسات أمريكا تجاه إيران فيما يتعلق بملفها النووي إلي الحد الذي جعلها تقبل أن تقوم بدور الوسيط المراقب لتسليم واستلام اليورانيوم قبل وبعد تخصيبه بمعرفة طرف ثالث..

الثاني.. سياسات إسرائيل العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني وخصوصاً ما يتعلق بحصارها العنصري ضد قطاع غزة، والتي فتحت الباب لتباعد بين الطرفين في أعقاب حادثة الاعتداء علي قافلة السلام البحرية..

كانت أنقرة تتدارس النتائج المترتبة علي انضمامها لاتفاقية الدرع الصاروخية في ثوبها الأطلسي وعينها علي موسكو بأكثر مما هي علي الشرق الأوسط الكبير، بسبب إمدادات الطاقة التي ترد إليها منها في جانب وبسبب الحرص علي مواصلة كسب صداقتها لتوسيع مجال علاقتها بدول القوقاز وآسيا الوسطي علي أكثر من مستوي في الجانب الآخر.. كانت تحسب خطواتها حتى لا تغضبها وتثير من جديد العداوة التاريخية التي كانت قائمة بينهما إلي عدة سنوات مضت فتتوقف توريدات الطاقة وتتجمد نشاطاتها الاجتماعية والثقافية واستثماراتها في عدد من الدول التي تدور في فلك موسكو وتتوافق مع سياساتها..

أما واشنطن فلجأت إلي سياسة العصا والجزرة مع تركيا.. ففي حين لم تصعد من مستويات إدانتها لأنقرة بسبب توقيعها علي اتفاق يلزمها بمساعدة طهران لاستكمال مراحل تخصيب اليورانيوم الذي تحتاج إليه وعملت علي شجب الاعتداء الإسرائيلي دون أن تعترف لها بحق كسر الحصار المفروض علي شعب غزة المحتل.. خفض الكونجرس من مؤشرات اعتبارها حليف استراتيجي يُعتمد عليه خاصة ضمن تعاملات الإدارة الأمريكية مع كل من سوريا وإيران.. وابلغ الرئيس أوباما رئيس الوزراء التركي رجب طيب اودوغان انه لا يملك العدد الكافي من الأوراق التي تمكنه من تمرير صفقة الأسلحة التي طلبت حكومته الحصول عليها ( طائرات مروحية أباتشي وسوبر كوبرا + منصات إطلاق صواريخ ) علي مستوى الكونجرس بسبب quot; تصويتها ضد فرض عقوبات علي إيران في مجلس الأمن quot; وبسبب ما دأبت عليه من quot; سياسات هجومية ضد إسرائيل quot;.. من هذا المنطلق اعتذرت قيادة القوات المسلحة الأمريكية عن المشاركة في مناورات quot; نسر الأناضول السنوية للعام الحالي مما أثر بشكل كبير عن النتائج المستخلصة من ورائها..

هذه المواقف أجبرت أنقرة علي إمعان النظر في مضمون رسائل واشنطن السلبية التي تصل إليها تباعاً بينما كانت تتابع عن كثب مؤشرات التقارب الإيجابي المتنامي بين الطرفين الأمريكي والروسي حيال quot; الدرع الصاروخي quot; وأدركت أن قبولها بإقامة جزء منه فوق أرضها سيعود عليها بنفع كبير خاصة بعد انضمام روسيا إلي المنظومة، فما كان منها إلا أن فضلت الحصول علي عدد من المكاسب الجيوسياسية بدلا ًمن توسيع دائرة خلافاتها مع واشنطن بما يضر مصالحها الإقليمية، عن طريق إبداء الليونة فيما يتعلق بـ..
1 ndash; المشاركة في ملأ الفراغ الذي سيترتب علي الانسحاب الأمريكي من العراق..
2 ndash; المشاركة في العمل السياسي الهادف لاحتواء إيران..
3 ndash; الاكتفاء بالتصعيد اللفظي تجاه إسرائيل..
4 ndash; الحد من حجم الدعم المجاني الذي تقدمه لمنظمة حماس..
5 ndash; تشجيع تيار الاعتدال المتقارب مع الإدارة الأمريكية داخل سورية..
حرصت واشنطن علي توفير قدر من الترحيب بما بدا من ليونة تركية تجاه هذه الملفات أبان التباحث بين الجانبين حول quot; الدرع الصاروخي quot; استعداداً لقمة حلف شمال الأطلسي في لشبونة، فألمحت أنها ستساند موقف أنقرة في أمرين..

أ ndash; أن تشارك بضابط تركي في مركز قيادة المشروع والتحكم فيه تحت إشراف القيادة العليا للمنظومة وفق اللائحة الداخلية للحلف، في ضوء قيام جزء منه فوق أراضيها..
ب ndash; أن لا يتضمن البيان الختامي لقمة لشبونة أي إشارة إلي سورية وإيران باعتبارهما مستهدفتين كما تشير كافة التقارير الدولية..

لا حظ المراقبون انه في مقابل عدم إشارة البيان الختامي للقمة إلي هاتين الدولتين، لم يأت ذكر لإسرائيل في أي مواده الـ 54، بالرغم من أن كل ما نشر قبل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش الابن ndash; حول الدرع الصاروخية التي كانت أمريكية ثم تحولت إلي أطلسية - وحتى الأمس القريب يؤكد أن إسرائيل تأتي علي رأس مجموعة دول المنطقة التي ستستفيد استفادة مباشرة من هذه المنظومة.. لذلك مالت غالبية الكتابات التي علقت علي تلك القمة إلي أن quot; إهمال الإشارة إلي سورية وإيران، لا يقلل من حجم ولا الهدف من وراء استهدافهما.. كما أن التغاضي عن الإشارة إلي إسرائيل، لا يحرمها من استحقاقات الحماية التي تؤكدها تصريحات كبار المسئولين في واشنطن وآخرهم وزيرة الخارجية إبان مباحثاتها التي استمرت 7 ساعات مع رئيس وزراء إسرائيل منذ أسبوعين quot;..

من هنا تأتي مشروعية التساؤل عن موقف تركيا عندما يتعلق الأمر بسورية وإيران، إذا ما وقف دول الحلف الـ 26 موقفا يخالف توجهاتها ناحية كل من دمشق وطهران ؟؟ ناهيك طبعاً عن موقفها حيال توجهاتهم ناحية إسرائيل..

وإن كان بعض الخبراء يميلون إلي القول بأن أنقرة ستكون مقيدة اليدين في كلا الحالتين، إلا إنني أميل إلي تأجيل البحث عن إجابة اقرب إلي الواقع لهذا التساؤل حتى نتعرف علي نتائج اجتماع وزراء دفاع دول الحلف في مارس القادم والتي ستخصص للبحث عن مركز لقيادة المنظومة، ومن بعده اجتماعهم في يونية الذي يليه مع خبراء الحلف السياسيون للتباحث حول آلية تشغيل الدرع.. لأن أي طعن من جانب أنقرة فيما يتعلق بهاتين النقطتين لن يمر مر الكرام لا من جانب الولايات المتحدة ولا من جانب إسرائيل..
bull;استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]