لقد كان ثمن اصوات الناخبين ايام الدكتاتوريات لا يعني اكثر من وريقات صفراء مسلوبة الإرادة، يتم دحسها في صناديق مغفلة يراقبها موظفون حكوميون وامنيون مكلفون برصد من يخرج عن خارطة الطريق المعدة لكل الناخبين من أبناء الشعب والأمة لانتخاب القائد أو التابعين له من المناضلين و ( المستقلين ) الأشاوس، وربما لا تعني ايضا في نهائيات اللعبة إلا تمثيليات إعلامية يتسلى بها الحزب القائد والرئيس الضرورة وملحقاته من المناضلين التابعين واجهزة الاعلام المختلفة ومنظمات الجامعة العربية التي عاهدت الله على تزكية كل الانتخابات والاستفتاءات لدى اعضائها يسارا ويمينا، ودائما أختام التزكية الخضراء التي تصف الانتخابات بالنزيهة والعادلة والمنصفة جدا حاضرة مع مندوبيها أينما حلوا أو ارتحلوا!

ومن ذلك أدرك المواطن الناخب أن ذهابه الى صناديق الاقتراع من عدمه لا يؤثر إطلاقا على نتائج الانتخابات بل يؤثر على أمنه الشخصي ورزق عياله ومستقبلهم مع النظام، ولذلك كنا نشاهد طوابير طويلة وفي غاية النظام أمام عدسات التلفزيون والمراقبين الدوليين المدعوين من قبل ( أمانة سر القطر ووزارة الإعلام المؤدلجة ) يرافقهم الرفاق في مكتب المنظمات الشعبية ( المخابرات ) من حي الى آخر ومن قرية الى مدينة ليشهدوا عظمة الديمقراطية في ( عهد الحزب والرئيس القائد )، وخاصة اولئك المراقبين الدوليين القادمين من كوبا وكوريا الشمالية وسريلانكا وبنغلاديش وجيبوتي؟

وخلال هذه العقود الطويلة من الإرهاب والاستبداد والاستكانة وتغييب الآخر وتحريم الرأي وتسطيح عقول الأهالي ( وخصوصا لدى الشرائح الأوسع من السكان في الأرياف والأحياء الفقيرة ) وسلب إراداتهم وسحق أي مقاومة تذكر، تفشت الاتكالية واللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية وانحلال مفهوم المواطنة وتقزيمه في قرية او عشيرة او بيت من البيوتات، حتى اصبح الوطن لا يعني اكثر من تلك الحدود الضيقة التي لا تتجاوز القرية او المحلة، وقد اثبتت الأحداث بعد انحلال الدولة ومؤسساتها وهروب ( الرئيس القائد العام ) والحكومة في نيسان 2003م، تداعي كثير من تلك المفاهيم والشعارات الكاذبة التي كان يطبل ويزمر لها النظام طيلة ما يقرب من اربعين عاما عجاف، حتى تحولت قطاعات واسعة من الأهالي في غضون ساعات الى مجاميع من السراق والسلابة، ينهبون ويسلبون اموال الدولة ونفائسها حتى يخرج عليهم صدام حسين في واحدة من خطبه المرسلة من أعماق تلك الحفرة المعروفة، فيحل لهم كل ما سرقوه ونهبوه من أموال الدولة ومخازنها، ولكي يتحول الكثير منهم بعد اقل من سنتين الى حيتان كبيرة ليس في المال والسحت الحرام فقط بل حتى في السياسة ومؤسسات الدولة الجديدة التي استطاعوا اختراقها عبر القطار الأمريكي ثانية.

واليوم وبعد ما يزيد على نصف قرن من الانظمة الدكتاتورية المتتالية التي انتجت العديد من الحروب المدمرة، وعشرات الألاعيب السياسية التي تمخضت عن إنتاج مجالس مشوهة وعرجاء تحتلها أفواج من المنافقين والسراق والمنتفعين وهزازي الرأس والاكتاف، يتوجه الناخبون العراقيون للمرة الثانية خلال خمس سنوات لانتخاب ممثليهم الى مجلس النواب الذي شاهدنا فعالياته وسلوكيات اعضائه ومجموعة القوانين والتعديلات التي انجزها خلال دورته مقارنة مع ما حصل عليه اولئك الأعضاء، الذين حشرتهم القوائم المغلقة وساقتهم الى مقاعد لا يفقه معظمهم معناها إلا من خلال تلك الامتيازات التي كادت أن تمسخ انسانية اغلبيتهم، بل تسببت في دفع افواج اخرى من المعاقين وطنيا واجتماعيا وفكريا وثقافيا من أبطال الحواسم التي أعقبت سقوط النظام، للتهافت الى تلك المقاعد طلبا للماء والكلأ ولكن هذه المرة تحت شعارات براقة تتبناها كتل سياسية وتدعمها احزاب وعشائر وشيوخ ساهموا بكل جدارة في كل الدبكات والأهازيج والمناسبات؟

لقد كانت الدورة السابقة رغم كل ما فيها من عيوب ومن اعضاء معاقين افضل مما شهدته البلاد خلال النصف قرن الأخيرة في مجال المؤسسات التشريعية وهي بالتالي بكل سلبياتها وايجابياتها تأتي في التقييم كدورة اولى لبرلمان عراقي منتخب بشكل حقيقي، وان كان الكثير من اعضائه لا يمثلون إلا انفسهم وارادات من رشحهم من القوائم وليس الشعب، وفي هذه الدورة التي يتنافس فيها الآلاف من المرشحين يتبادر الى اذهاننا الكثير من التساؤلات وربما في مقدمتها:
كم كانت الفائدة المرجوة من الدورة الاولى في انتقاء وتشخيص المرشحين من قبل كتلهم السياسية؟
وتحت أي اعتبارات تمت عملية الترشيح؟

وهل حقا إن هؤلاء المرشحين ذاهبين الى حيث القيم العليا ومصالح البلاد والعباد؟
وهل هم فعلا خير من يمثل الاهالي في تاريخهم وانتمائهم ووطنيتهم وأخلاقياتهم وثقافتهم ومصداقيتهم والمكان الذي سيشغلونه لأجل الوطن والشعب اولا؟

وأخيرا وليس آخرا يبدو هذا السؤال صعب ومحير ايضا:

( هل حقا يستحقون اصواتنا؟ )

هؤلاء المرشحون الى مجلس النواب العراقي؟

سأترك السؤال والإجابة لكل ناخب قبل أن يصل صندوق الاقتراع !