ثلاثة و أربعون عاما قد مرت على أبشع و أشنع هزيمة عسكرية وسياسية وحضارية عاشها العالم العربي في العصر الحديث، وهي هزيمة كانت ذات مواصفات ومقاييس خاصة وطدت لعصر عربي حافل بالهزائم و الكوارث و النكبات التي لم تنته حتى اللحظة بل ما زالت للهزائم و الإنتكاسات سجلات وملفات ومواقع، في صيف عام 1967 إنتهت و بشكل سريع مرحلة عربية كانت عامرة بالشعارات و ألأحلام الثورية و الأوهام التاريخية وهي المرحلة التي سميت بالمرحلة الإنقلابية الثورية حينما كان الشعار الرسمي الثوري المرفوع رياءا يصدح بأعلى صوته من على موجات الأثير : لاصوت يعلو فوق صوت المعركة!!

ولكنها للأسف لم تكن المعركة التاريخية المنتظرة مع أعداء الأمة بل مع أبناء ألأمة ذاتها من الذين كافحوا ضد الديكتاتورية و التسلط و الإستبداد الذي تسببت به أنظمة عسكرية فاشلة مهزومة من الداخل ينخرها الفساد و المحسوبية و الشللية و تعتمد في إدامة تسلطها على أهل الولاء ولو كانوا من الأغبياء وليس على أهل الحكمة و الدراية، لقد سمى البعض من الكتاب العرب مرحلة الستينيات بالعصر الذهبي للقومية العربية!!

ولم يكن ذلك تقويما صحيحا بالمطلق، نعم لقد كانت هنالك صحوة شعبية وقومية عربية كانت تهدف لمعانقة متغيرات العصر و لإحداث ثورة تغييرية حقيقية في المفاهيم و القيم نحو الأفضل ولكن كانت هنالك بالمقابل أنظمة عسكرية إعتبرت الديمقراطية و الحرية رجسا من عمل الشيطان و كانت مأخوذة بالكامل بتجربة دول المعسكر الشرقي الإستبدادية و الشمولية التي إعتبرها البعض قمة التطور الإنساني و التنمية الإقتصادية ولم يكن ذلك التقويم صحيحا أيضا، لقد حورب الأحرار تحت راية محاربة أعداء الأمة!!

و تمت سيادة أهل الفكر الإستبدادي و إعتبارهم طلائع للأمة، كما سادت الأحزاب الفاشية القومية الداعية للوحدة ظاهرا و العاملة في الباطن لتمزيق الأمة من الداخل عن طريق زرع الإستبداد و الخوف و التعتيم ومصادرة الرأي الآخر وفتح السجون و أقبية المخابرات لكل صوت ناقد، لقد كانت مرحلة هلامية طغت فيها الشعارات الفارغة وغاب عنها البناء الحقيقي، فالبناء الشامل لا ينهض به المسبدون أبدا بل الأحرار، لقد قدر للعالم العربي أن يقع تحت أسار أنظمة إستبدادية عسكرية فاشلة كانت إنتصاراتها على موجات الإذاعة فقط لاغير، فحرب عام 1967 لم تكن تختلف في ستراتجيتها وخطوطها العامة عن حرب 1956 و التي أعمى الإنتصار السياسي فيها قيادات تلك الفترة عن الأخذ بعبرها العسكرية، فالقيادة العسكرية المصرية المهزومة عام 1956 و التي فقدت صحراء سيناء أمام الإسرائيليين كانت هي نفسها وبنفس رجالها و مواصفاتها و عقلياتها القيادة التي واجهت حرب حزيران/يونيو 1967 وهزمت فيها شر هزيمة ولم تأخذ بأي حكم وعبر مما تم قبل 11 عاما من الزمان تغير معها شكل العالم و الأسلحة و الستراتيجيات فيما بقيت القيادات الخشبية و الفاشلة و ( المتعنطزة ) هي نفسها بدون تغيير و لا تحديث و لا تعديل فما هو مهم هو إستمرار النظام السياسي وليس وحدة و سلامة الوطن، النصر الإسرائيلي السريع الذي تحقق في ستة ساعات في حرب 1967 لم يكن مفاجئا بالمرة لكل من يعرف حقيقة الأنظمة القمعية التي تفننت في قهر شعوبها و إذلالها، فإحتلال سيناء بعد تدمير الغطاء الجوي المصري في الضربة الجوية الإسرائيلية الأولى على القواعد و المطارات المتقدمة أو في العمق المصري كان تحصيل حاصل لجمود الفكر العسكري و للإستعراض المفرط في العمل السياسي، فقد كان واضحا منذ نهاية شهر مايو من ذلك العام وبعد الطلب المصري لسحب قوات المراقبة الدولية من سيناء بأن الحرب واقعة لا محالة، ثم جاء قرار إغلاق مضايق تيران أمام البواخر الإسرائيلية ليوفر ذريعة أساسية كانت تحتاجها إسرائيل للمباشرة بشن الحرب و العدوان و تحقيق ما عجزت عن تحقيقه في حرب 1956 بسبب سياسة الحرب الباردة وقتذاك، لقد دخلت قيادة مصر في حرب عام 1967 بأسلوب الهرجلة و العشوائية وكان للصراع السياسي و الشخصي بين قيادات تلك الأيام وخصوصا بين الرئيس جمال عبد الناصر و المشير عبد الحكيم عامر دور كبير في المأساة التي حدثت وكلفت مصر و العرب أثمان قاسية لم نزل ندفعها حتى اللحظة، في الجبهة السورية كان نظام البعث المراهق و الطائش و الجاهل قد أفرغ الجيش السوري من خيرة ضباطه و قياداته بسبب الإنقلابات و التطهيرات وحملات التصفية المستمرة فكان تسليم هضبة الجولان بسهولة ملفتة للنظر واحدا من أهم الإنجازات الفضائحية لنظام البعث السوري الذي إعتبر نجاته من تلك الحرب وعدم سقوط نظامه فيها أكبر إنتصار قومي!! وتلك هي المهزلة التاريخية، لقد كان الإسرائيليون يعيشون مع خططهم العسكرية و أحلامهم الحربية كل يوم بينما كانـت انظمة تلكم الأيام الثورية سكرانه بأناشيد النصر و بمقالات الكذب و النفاق و الرياء و بأوهام القوة و الإقتدار، فلما وقعت الواقعة صدم العالم العربي وقواه الثورية و السياسية رغم أن ماحصل لم يكن مفاجئا أبدا، فتلك الأنظمة لم تنتصر أبدا في أي معركة حقيقية خارج إطار الراديو و التلفزيون!، لقد إنهارت أصنام الهزيمة بعد تلك الحرب ودخل العالم العربي في مرحلة مستمرة من التصفيات و الأحداث الجسام التي غيرت شكل و معالم الحياة و السياسة العربية، لقد كانت هزيمة الخامس من يونيو نقطة البداية الحقيقية لمتغيرات بنيوية كبرى في العالم العربي وهي ستظل رغم قساوتها حدثا تاريخيا فاصلا في عالم عربي لم تتشكل ذاته النهائية بعد رغم فظاعة و أهوال ماحدث!!.. وتلك هي المعضلة...؟

[email protected]