عنوان الكتاب: المسيح العربي.
تأليف: فاضل الربيعي.
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، طبعة أولى، 2009م.
عدد الصفحات: 365 صفحة.



تثير القضايا الدينية إشكالات عدة لجهة التداعيات الأمنية والفكرية والسياسية التي تترتب على معالجتها ومقاربتها انطلاقاً من وجهة نظر دينية قد تكون متباينة، وأحياناً متناقضة. وما حادثة إيقاف المسلسل الإيراني الأخير على بعض القنوات اللبنانية، والذي تناول قصة حياة السيد المسيح، بسبب ما أثاره من إشكالات وحساسيات أمنية وطائفية، سوى دليل على ما تقدم.
تتمثل الفكرة الأساسية للمؤلف والتي يطرحها في كتابه في تزاحم صورتين متناظرتين للمسيح في المسيحية العربية، كما تزاحمت في الماضي البعيد، إحداهما للنبي عيسى بن مريم، والأخرى حسب هذه الصورة لlaquo;الرب يسوع المسيحraquo;. الجانب الإشكالي في الطرح الذي يقدمه المؤلف يكمن فيما يصفه بظهور ثلاثة مراكز روحية كبرى في الجزيرة العربية، هي اليهودية في اليمن، ثم المسيحية في نجران، وأخيراً الإسلام في الحجاز، فيما يطلق عليه تعبير laquo;إيكولوجيا التوحيدraquo;. معتبراً أن اليهودية دين من أديان العرب دانت به قبائل منهم، ثم انتشر في وقت ما من التاريخ خارج حاضنته التاريخية القديمة، مثله مثل المسيحية التي انبثقت من قلب النصرانية العربية وراحت تنتشر في مختلف أرجاء الإمبراطورية الرومانية بعد اعتناق روما لها رسمياً.
الصورتان التاريخيتان بفعل الإشكال القائم، تبدوان لديانتين، إحداهما قديمة وقد عرفها العرب باسم النصرانية، وأخرى جديدة سوف يعرفونها تحت تأثير الفلسفة اليونانية، ثم تحت تأثير الجدل الفلسفي العميق حول شخصية المسيح باسم المسيحية، وهي المسيحية الرسولية نسبة إلى بولس الرسول، وقد درج العامة على مماثلة النصرانية مع المسيحية حتى أصبحت كلمة نصراني دالة على المسيحي بإطلاق. واستناداً إلى كثير من المصادر التاريخية، فإن روايات بعض الإخباريين العرب عن نصرانية بعض القبائل في الجزيرة العربية واليمن والعراق والشام لا تدل على أن المقصود منها الإشارة إلى المسيحية كما نعرفها اليوم، بل قصد منها الإشارة إلى دين عربي قديم هو النصرانية، لذلك يسعى المؤلف إلى التأكيد أن الرواية المعاصرة، ولأغراض التحليل التاريخي، يجب أن تتضمن التمييز نفسه.
ويشير الربيعي إلى أن بزوغ عصر النصرانية في الجزيرة العربية ثم اضمحلالها وانحسارها في المنطقة ارتبط بجملة عوامل وظروف دولية ومحلية، منها تصاعد الصراع البيزنطي ـ الفارسي، وهو صراع لعبت فيه مملكة الحيرة في العراق القديم واليمن ونجران ومكة والقدس أدوارا متميزة. وقد أصبحت الحيرة واحدة من أكبر حاضنتين تاريخيتين للنصرانية بعد نجران في الجنوب الغربي، فعلى الرغم من التراجع الذي عرفته النصرانية، إلا أنها واصلت دفاعها عن نصرانية العرب الأولى، وذلك حين أقدم ملوكها وقبائلهم على اعتناق مذاهب مسيحية شرقية بدت لهم الأقرب إلى الديانة القديمة، وسعت مملكة الحيرة إلى مقاومة التبدل العميق والجذري الذي طرأ على هذه الديانة.
وفي ظل تزاحم القوى الدولية والأفكار والمعتقدات الفلسفية من حول العرب، راحت الصور الجديدة ليسوع المسيح laquo;الربraquo;، وقد صاغها الرسل والبطاركة في أنطاكيا والأسكندرية تحت التأثير المباشر للفلسفة اليونانية، تتدفق من حول قبائلهم وممالكهم الصغيرة لتفرض عليهم القيام بتعديلات على جوهر ديانتهم القديمة، وأن يتقبلوا الدمج المثير بين شخصيتي عيسى بن مريم ويسوع المسيح كرب لا كإنسان، الأمر الذي كانت تأباه تحت تأثير فطرتها الأولى التي تأنف من فكرة تأليه البشر لبشر آخرين.
ويؤكد المؤلف أن نصرانية قبائل العرب كانت هي مسيحيتها القديمة التي ولدت على الفطرة، عقيدة توحيدية شديدة البساطة والتقشف من المنظور الفلسفي، وشديدة التناغم والانسجام والتلاؤم مع حاجات بيئة صحراوية.
ثم يتتبع المؤلف تحولات النصرانية، انطلاقاً من الأساس الذي يبني عليه مادة كتابه، ويذكر أن النصاري العرب في مملكة الحيرة، وهم يتتبعون خطى أخوتهم في نجران، راحوا يتجمعون في شكل فرقة دينية يطلق عليها العباد، وأن التحول المطرد فيما بعد إلى الحنيفية والذي شهدته الجزيرة العربية في أوساط وثنيي قريش عشية الإسلام، كان يرتبط بحقيقة بأن تراجع النصرانية اتخذ في هذه الآونة من التاريخ صورة عودة إلى عقائد وشرائع عربية ولدت في الأصل من رحم الديانة الإبراهيمية، ومن هذه العقائد عقيدة الحنيفية.
ومن المصادر التي يعتمد عليها المؤلف لتأكيد روايته، ما سجله القرآن الكريم في العديد من الآيات والصور بشأن الجدل المحتدم حول شخصية المسيح، الأمر الذي انتهى بتمسك وتشبث النصاري العرب بروايتهم عن دين المسيح العربي. ومع اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية كديانة رسمية، لم يكن أمام النصرانية العربية سوى الانزواء داخل الجزيرة العربية في صورة أحناف زهدوا في الدنيا، ولكنهم كانوا لا يزالون في مسوح الرهبان.
ويحلل المؤلف ما يصفه بأهم أسطورة عربية قديمة تداولها سكان الحيرة ومعهم عرب الجزيرة العربية على مر العصور، وهي أسطورة جذيمة الأبرش الذي يقال أنه تحول إلى النصرانية ومصرع النديمين ـ المهرجين ـ بوصفها الأسطورة الكبرى والمؤسسة لسلسلة من الأساطير والتصورات السائدة عن تاريخ هذه المملكة ونصرانية ملوكها العرب.
ويخلص الكتاب إلى اعتبار أن النصرانية لم تكن ديناً غريباً على العرب، وأن أفكارها حول الرب والكون وعالم الخير والشر والنجاسة والطهارة لم تكن غريبة أو متعارضة مع المعتقدات البدائية التي آمنت بها القبائل على اختلاف أنسابها وأوطانها التاريخية. وهي أفكار من الصعب الجزم بها أو اتخاذ موقف حاسم منها بسهولة.

هشام منور...كاتب وباحث
[email protected]