للمفكر السياسي العظيم نيقولا مكيافيلي عدد من النصائح المهمة موجهة للحكام نشرها قبل خمسمئة عام في كتابه الموسوم quot; الأميرquot;، و يقال أن كثيراَ من الحكام حتى زمننا الحاضر يحتفظون بنسخة من الكتاب تحت وساداتهم يقرأون منه كل ليلة ما يفيدهم في إدارة شئون رعاياهم ويمكنهم من المحافظة على سلطانهم. ومن بين أشهر النصائح التي وجهها مكيافيلي للحاكم أن يحذر عند التعامل مع أموال الناس فهم كما يقول quot; ربما يسامحونك إن قتلت أباهم لكنهم أبدا لن يسامحوك إن سلبت أموالهمquot;.

هذا القول شبيه إلى درجة التماثل بالمثل الشعبي الشهير quot; قطع الاعناق ولا قطع الارزاقquot; ويبدو أن من صاغ هذا المثل قد اطلع على كتاب الامير، أو أن مكيافيلي قد سمع بمثلنا الشعبي وضمنه لكتابه. المهم والمؤكد أن الاقوال كثيرة في أثر أموال الناس وأحوالهم المعيشية على اتجاهاتهم ومواقفهم وبشكل خاص السياسية. وهذا في الحقيقة يحدث بشكل مستمر، إما بطريقة سلميه أثناء الانتخابات حيث يصبح الاقتصاد والسياسة الاقتصادية هي العامل الأكثر تأثيراً في تحديد نتائج الانتخابات ولعلنا نتذكر العبارة الشهيرة التي قيلت اثناء الانتخابات الأمريكية قبل سنوات و التي تقول(إنه الاقتصاد يا غبي) في اشارة إلى أن من يريد أن يكسب أصوات الناخبين الأمريكيين فعليه مراعاة اوضاعهم وحاجاتهم الاقتصادية.

كما أن هناك مظهراَ آخر ولكنه أقل سلمية لتأثير الاقتصاد وأحوال الناس المعيشية على مواقفهم ومن ذلك أثر الازمات الاقتصادية على استقرار الاوضاع السياسية وكذلك مسيرات الاحتجاج ضد تخفيض الدعم الحكومي للسلع الاساسية أو ضد رفع الأسعار، ولعلنا لا نزال نتذكر ما أصبح يعرف بثورة الخبز أو انتفاضة صندوق النقد الدولي احتجاجاً على النصائح التي يقدمها الصندوق للحكومات لمعالجة مشاكلها الاقتصادية ومعظمها يدعو لتقليص الإنفاق الحكومي وهي نصائح أكثر من يتأثر بها الفئات الأقل دخلاَ. بل إن أثر الاقتصاد على السلوك السياسي للجماهير قد يرتقي أحياناً ويتظافر مع عوامل أخرى ليقود إلى ثورات كما حدث في فرنسا و روسيا وايران.

نحن في المملكة والخليج بشكل عام رزقنا المولى عزً وجل من باطن الارض ثروات عظيمة كفتنا الحاجة للتعرف على هذه العلاقة العكسية بين الاحوال المعيشية من جهة والمواقف السياسية من جهة أخرى، حيث حمتنا ثروة النفطndash; اطال الله عمرهndash; كما قال خادم الحرمين الشريفين مداعباً-من همَ الضرائب وضمنت لنا طوال هذه العقود مستوياتِ معيشية طيبة نسأل الله أن يرزقنا شكرها.

ولكن وخلال السنوات الاخيرة تغيرت هذه الحالة حيث بدأت الاحوال المعيشية في التردي لأسباب مختلفة وزادت مساحة الفقر في المجتمع، ورغم أننا بقينا في مأمن من الضرائب المثقلة للكاهل في الكثير من الدول، إلا أن بعضنا بدأ يحس بثقل رسوم فرضت ليس لهدف تحصيل المال-وإن كان هنأك من يعتقد ذلك-ولكن بقصد تعديل السلوك من خلال تحميل المواطن تكاليف في شكل رسوم مالية ومن ذلك رسوم الاستقدام التي تهدف إلى الحد من استقدام العمالة الاجنبية، ولكن يظهر أن الرسوم المرتفعة لم تنجح في تعديل السلوك حيث لا نزال نستقدم العمالة بمعدلات عالية جداً.

واليوم نجدنا أمام رسوم جديدة فرضت من أجل تعديل السلوك المروري للحد من الخسائر الكبيرة في الأرواح و الممتلكات، ولا يزال الوقت مبكراَ للحكم على نجاح هذه الرسوم في تحقيق الهدف المنشود.

المؤكد هو أن مخالفات ساهر المبالغ فيها أصبحت مصدر شكوى بين الكثير من شرائح المجتمع وخاصة من أبناء الطبقتين الوسطى والمحدودة الدخل. ومن خلال ما يصلنا في الجمعية الوطنية لحقوق الانسان من شكاوى تجاه ساهر أستطيع أن أقول أننا اليوم أمام مصدر احتقان واستياء لم يعرفه المجتمع السعودي من قبل. فمن خلال الاتصالات التي ترد احتجاجاَ على ساهر أحس بلغة مختلفة في مفرداتها و تعابيرها وهي لغة مشحونة وتختزن الكثير من الالم وتعبر عن درجة متقدمة من الاستياء. الناس بالطبع لا يشتكون من النظام بل جميعهم مؤيد له ومقدِر للحكومة تطبيقه، لكنهم يشتكون المبالغة الكبيرة في قيمة المخالفات التي أصبحت تثقل كواهلهم.

لقد اشتكى لنا كثير من الاباء وكذلك الامهات من أصحاب الدخل المحدود الذين ولأسباب خارج سيطرتهم حصل ابنائهم على مخالفات في شهر واحد تجاوزت في مجملها ثلثي دخلهم. هم يشتكون من هذه المخالفات التي في حال اضيفت إلى الارتفاع المستمر في اسعار السلع والخدمات اصبحت لا تبقي لهم سوى النزر اليسير من الدخل و جعلتهم في معاناة يومية حتى لسد احتياجاتهم الاساسية.

ما يزيد الحسرة ويرفع من حالة الاستياء هو أن هذه المخالفات المبالغة تفرض في وقت تتمتع فيه الدولة بأكبر ميزانيات في تاريخها وقد أعلن قبل أيام عن ميزانية هذا العام التي اظهرت ارقام عظيمة ولله الحمد. والمفارقة أن الحديث المتكرر عن الميزانية والاحتفاء بها ووصفها بأنها الأكبر في التاريخ يزيد-ولا ينقص-من ألم و استياء من صادتهم كاميرات ساهر حيث يتساءلون بل يحتجون كيف يطالبون بدفع هذه المخالفات المبالغ فيها في وقت يرتفع فيه دخل الدولة إلى أرقام فلكية.

وتزداد الحيرة حين يشعرون أن مسئولية هذه المخالفات لا تقع عليهم وحدهم بل تشاركهم في تحملها ادارة المرور بسبب ضعف التهيئة قبل واثناء تطبيق النظام. فالجميع يشتكي بأن ارتكابهم المخالفات سببه عدم وجود تحديد دقيق وواضح للسرعات القصوى في معظم الشوارع والطرق. ويراهن البعض أن الغالبية الكبرى من المخالفات في مدينة الرياض على سبيل المثال سٌجلت في الشوارع الداخلية وليس على الطريق الدائري أو الطرق السريعة وسبب ذلك أن السرعة القصوى معروفة بشكل جلي وواضح في الطريق الدائري وبقية الطرق السريعة ولذلك يلتزم السائقون بها، في حين أن الشوارع الداخلية تفتقر لتحديد واضح للسرعة فقد لا توجد لوحات سرعة، أو أنها توجد ولكن يصعب رؤيتها بسبب حجبها بشجرة أو نحوه، أو أن تتغير السرعة القصوى بين مسافات قصيرة في نفس الشارع. وللتأكد من هذا القول وتفنيده فقد يكون من الملائم تكليف جهة محايدة مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية أو جامعة الملك سعود للقيام بدراسة للمخالفات المرورية المسجلة في مدينة الرياض لتحديد موقع حدوثها وبذلك تتبين على من تقع المسئولية فقد تظهر أن المشكلة ليست في السائقين بل في تطبيق النظام دون الوفاء الكامل باشتراطاته.

وعودة إلى شكوى الناس وما تعبر عنه من احتقان ومن أجل احتوائه وعدم تطوره باتجاهات سلبية نقول أن الوقت لا يزال مناسباً لإعادة النظر في قيمة المخالفات و تخفيضها بحيث تحقق الغرض منها، وفي الوقت ذاته لا تثقل كاهل المواطن صاحب الدخل المحدود. فمخالفة قدرها (300 أو 500 ريال) و رفعها للحد الأعلى في حال عدم التسديد خلال شهر تعد مرتفعة جداَ بالنظر لدخل الكثير من المواطنين والذي تراجع خلال السنوات الاخيرة بسبب ارتفاع تكاليف الحياة. وقد أشارت دراسة حديثة إلى أن 45% من الموظفين السعوديين يتقاضون مرتبات شهرية لا تتجاوز 3000 ريال وعليكم الحساب حين يسجًل على صاحب هذا الدخل أو من يعوله مخالفتين أو أكثر في الشهر.! وقد حدثني زميل متخصص في الدراسات الاجتماعية أن احتمال ارتكاب المخالفات يزداد بين اصحاب الدخول المحدودة مقارنة بأصحاب الدخول المرتفعة بسبب الهموم المعيشية التي يحملونها و تشغل تفكيرهم وتصرفهم عن مراقبة مؤشر السرعة.

قرار تخفيض قيمة المخالفات لابد أن يرافقه ايضاَ قرار آخر بتجميد مؤقت لنظام ساهر حتى تقوم إدارة المرور بمسئولياتها في تهيئة كافة الشوارع والطرق باللوحات المحددة للسرعة وتكثيفها وكذلك اعادة تخطيط هذه الشوارع. نعم على السائقين الالتزام بضوابط المرور وهم بل لاشك مسئولون عن المخالفات ولكنهم-وهذا ما يجب أن يدركه صانع القرار ndash; ليسوا منفردين في تحمل هذه المسئولية بل المرور شريك لهم وقد يكون نصيبه أكبر في تحمل مسئولية المخالفات التي تقع حين طبق ساهر قبل تحديد واضح لا لبس فيه ولا غموض للسرعة النظامية.

أخيراً لا زلت أراهن على الطبيعة المسالمة للثقافة السياسية السعودية وكذلك الاثر الايجابي للتدين في المجتمع السعودي الذي يساعد الفرد على تحمل معاناته وتفريغها حين يرفع يديه نحو السماء داعياً ليخفف الله عنه ومن ثم يزول أي أثر سلبي لهذه المعاناة.
في الختام قد لا يكون نيقولا مكيافيلي خبيراَ مرورياَ، ولكنه دون شك حكيم سياسي يحرص الحكام دائما على عدم مخالفة نصائحه خشية من عواقب ذلك. والله من وراء القصد.

أ.د صالح بن محمد الخثلان
استاذ العلوم السياسية جامعة الملك سعود